وأضَاف الجندي محمد آدم يعقوب: قضيت اليوم الأول بعيد حادث انفجار أو تفجير طائرة عدارييل في إحدى القرى بالمنطقة عند بعض أهلي وأقاربي، وكنت متخوفاً جداً من ان يتم إلقاء القبض عليّ من قبل استخبارات الحركة الشعبية بجنوب السودان آنذاك أو من قبل استخبارات الجيش السوداني, ولكن مر اليوم بسلام ولم يحدث ما توقعته؛ وفي الصباح الباكر قلت لأقاربي، إنني أود العودة للخرطوم والذهاب إلى منزل الأهل (بأبو آدم) وقبل ذلك إعلامهم بأني حيٌّ أرزق ولم أمت، بيد أني أخشى أن تقوم سلطات الإنقاذ بإلقاء القبض عليّ أو تصفيتي كما فعلت مع القادة والضباط الكبار في الطائرة، وغذى من مخاوفي تلك وزادها، إن الإذاعة السودانية كانت تبث اسمي في ذيل قائمة المتوفين، ثم لن يصدق أحدٌ اني حيٌّ, فضلاً عن ان ظهوري العلني سوف يكشف مخططهم ويؤكد أن الحادثة كانت جريمة قتل وتصفية مرتب لها بدقة, وإلا كيف عدت للحياة مجدداً وأنا في قائمة المتوفين وعدّاد الموتى!؟
واستقر رأي أهلي أن أسافر إلى الخرطوم متخفياً في إحدى (اللواري) التي تعمل في تجارة الفحم من مناطق وقرى الشمال المتاخمة لعدارييل مثل (الخرسان)، وذلك حفاظاً على حياتي وحمايتي من استهداف الحكومة إذا اكتشفت بأني حيٌّ أرزق!
وبالفعل امتطيت أحد اللواري التي تعمل في تجارة الفحم بعد أن ارتديت ملابس عمال الفحم الرثّة والبالية والمُتّسخة لمزيد من التمويه، وكنت أجلس وسطهم إلى أن وصلت الخرطوم بسلام, وتوجّهت الى منزل شقيقي الأصغر بمدينة الحاج يوسف بشرق النيل ليلاً في وقت متأخر قرابة الساعة الثانية صباحاً وطرقت الباب، فجاء أخي وهو يستفسر عن الطارق في هذا الوقت المتأخر؛ فقلت له بصوت خافتٍ له أفتح أنا أخوك محمد، ولم يصدق أخي وهو يشاهدني؛ ودخلت لباحة المنزل سريعاً وعانقني بقوة وهو يبكي غير مُصدّقٍ أني حيٌّ، بعد ذلك سردت له كل تفاصيل الحادثة إلى أن وصلت إليهم حياً سالماً، ثم قمنا بالاتصال بوالدي وأخبرته بالقصة وهو بدوره أعلم بقية أهلي وزوجتي وأفراد الأسرة, واستقر رأينا على مواصلة العزاء وعدم إعلان خبر وفاتي تحسباً من أي مكروه قد يلحقني من قبل الحكومة التي اعتبرتني في عدّاد الموتى وقتلتني وأنا حيٌّ!
ولعل في ذلك حكمة إلهية قضت أن أنجو من الحادثة وأعيش حتى اللحظة لأكشف للناس أبعاد مؤامرة تصفية واغتيال القادة والضباط الكبار على رأسهم العقيد ابراهيم شمس الدين وزير الدولة بوزارة الدفاع آنذاك!
وأردف محمد آدم: هذه هي تفاصيل الحادثة كما شاهدتها وعايشتها لحظة بلحظة، وها أنذا أعلنها واكشفها لكم بكل صدق وشفافية للتاريخ والزمان, وأنا أؤكد لك ولكل الشعب السوداني أنه قد تمت تصفية وقتل القادة والضباط الكبار من قبل الحكومة بعد أن تم تخديرهم أو تسميمهم داخل الطائرة, أما لماذا فعلت الحكومة ذلك، فانا لا اعرف لأني مجرد (عسكري) وجندي صغير في قوات الشعب المسلحة لا علاقة لي بالسياسة ولا أفهم في دسائسها ومكرها وخبثها، وأرجو أن تملك أنت الشعب السوداني كل تلك الحقائق وتنشرها في صحيفتكم للحقيقة والتاريخ!
بعد ذلك أوضح لي عم وأخ الجندي محمد آدم يعقوب، أنهم يتخوّفون على حياة ابنهم ويتوقّعون أن تتم تصفيته أو قتله من قبل الحكومة كما حدث لبقية القادة الكبار، وطلبوا مني أن أقوم بنشر حديث ابنهم كاملاً دون حذف حمايةً لحياته، فوعدتهم خيراً بعد أن أكدت لهم أن رئيس تحرير صحيفة القبس التي كنت أعمل فيها آنذاك في العام 2001م الأستاذ (عابد سيد أحمد حميدة) قد وافق على إجراء الحوار والتزم بنشره كاملاً دُون حَذفٍ!
وبالفعل قامت الصحيفة بنشره بعد أن قام رئيس التحرير بحذف بعض الإفادات الخطيرة التي وردت فيه، سيما التي تشير إلى تورط الحكومة في جريمة تصفية القادة الكبار, وأن تلك كانت حادثة مدبرة بفعل فاعل وليس قضاءً وقدراً وحادثة تحطم طائرة بسبب سوء الأحوال الجويّة! فقد كانت الرقابة الأمنية القبلية شديدة على الصحف ولا تسمح بنشر ذلك الحوار كاملاً والذي يجرم قادة الإنقاذ الكبار، على رأسهم البشير الذي تزوّج من أرملة إبراهيم شمس الدين (وداد بابكر) بعد أن قام بتصفيته, وأيضاً علي عثمان وبكري حسن صالح!
لكن للحقيقة والتاريخ، تعامل الأستاذ عابد سيد أحمد مع الحوار بذكاء ومهنية واحترافية عالية، بحيث يعرف القاريء من بين ثنايا الحوار وخلف السطور أن تلك كانت جريمة تصفية كاملة الأركان!
وها أنذا أعيد نشر حديث الجندي وكيل عريف محمد آدم يعقوب كاملاً للتاريخ بعد عشرين عاماً من تلك الحادثة وبعد سقوط نظام الإنقاذ المُباد وفي عهد الثورة الظافرة، وذلك بهدف تمليك الشعب السوداني الحقائق حسبما رواها لي الجندي، سيما وأنّ هنالك بعض أُسر المتوفين في الحادثة قد تقدّمت ببلاغات للنائب العام، تُطالب فيها بفتح ملف القضية مجدداً، لإحساسهم أن الحادثة مُدبّرة بفعل فاعل؛ هم قادة الإنقاذ الذين يقبعون في السجون الآن؛ وقد استجاب لهم النائب العام مشكوراً!
وأختم سلسلة هذه المقالات، موضحاً أنه بعد نشر الحوار آنذاك في صحيفة القبس؛ أنه قد تم استدعائي مع رئيس التحرير عابد سيد أحمد من قِبل مدير مكتب الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة آنذاك النقيب فتح الرحمن الجعلي، وأجرى معنا تحقيقاً صعباً وقاسياً حول إفادات الجندي محمد آدم يعقوب التي نشرناها؛ سوف أعود إليه لاحقاً بكافة التفاصيل المُرعبة والمُخيفة!
وسلمت يا وطني العزيز يا شعبي الأصيل الصامد!