وأضاف الجندي وكيل عريف محمد آدم وعندما أصررت على إنقاذ قائدي اللواء طبيب، مالك العاقب الحاج الخضر (قائد السلاح الطبي)، لأن هذا واجبي ومهمتي هي إنقاذ قائدي حتى ولو أدى ذلك للتضحية بنفسي وروحي, جاءني العقيد عمر علي عثمان قرمبع ومنعني من الدخول الى مكان القادة, وقال لي اقفز من الطائرة وابتعد ونفذ الأوامر يا عسكري, ولما رفضت الانصياع له, قام قرمبع بدفعي بقوة شديدة نحو باب الطائرة التي أوشكت أن تحترق بأكملها، ولا يستطيع إنسانٌ حيٌّ أن يبقى فيها ولو ثانية واحدة، حتى إنّ البوريه والكاب الذي كُنت ارتديه احترق من شدة الحرارة!
وبعدها سقطت خارج الطائرة عبر الباب بسبب الدفعة الشديدة من العقيد عمر علي قرمبع, وسقطت على الأرض، بعيداً من الطائرة بمسافة متر أو مترين، وعندما رفعت رأسي لأعلى لأرى ماذا حدث للطائرة، شاهدت أغرب منظر في حياتي، فبعد أن دفعني العقيد عمر علي قرمبع الى خارج الطائرة، كنت أتوقّع ان يقفز من خلفي؛ سيما وان الطائرة قد احترقت تماماً، لكن أغرب ما في الأمر ان قرمبع رجع الى داخل الطائرة بل وأغلق الباب من خلفه, واحترق وسط النيران؛ وكان هذا أقسى وأبشع موقف شاهدته في حياتي, وفي رأيي أن قرمبع أشجع و(أرجل) ضابط وفارس ورجل شاهدته في حياتي, فقد اختار أن يموت احتراقاً داخل الطائرة وكان يمكن أن يقفز قبلي أو بعدي، ولكنه آثر تلك الميتة الحارة والقاسية التي لا يحتملها أشجع الشجعان، بيد أن العقيد عمر علي قرمبع فعلها ويا له من فارس وبطل شجاع لن تلد النساء مثله!
ويضيف الجندي محمد آدم، بعد ذلك انفجرت الطائرة انفجاراً قوياً، هزّ أرجاء المكان في مطار عدارييل, وكان انفجاراً ضخماً أضاء المكان كله، ثمّ انشطرت الطائرة إلى نصفين!
أما كيف نجوت أنا وكيف وصلت الى الخرطوم؛ فتلك قصة غريبة وعجيبة, فإنّني بعد أن سقطت على الأرض، اختبأت بين الحشائش العالية في أرضية مطار عدارييل, ولقد تملّكني خوفٌ شديدٌ، بعد مصرع القادة الكبار داخل الطائرة على رأسهم العقيد إبراهيم شمس الدين وزير الدولة بوزارة الدفاع وقائدي اللواء طبيب، مالك العاقب الحاج الخضر (قائد السلاح الطبي) حرقاً, فبت على قناعة تامة بأنهم قد تم تخديرهم أو تسميمهم في وجبة الإفطار والشاي والقهوة التي أدخلت لهم في مكانهم داخل الطائرة، ودليلي على ذلك إنني لم أسمع لهم صوتاً أو همساً بعدها, وأقول لك إنه كان بالإمكان إنقاذهم، بل كانوا سوف يخرجون جميعهم وحدهم ويقفزون خارج الطائرة، لو كانوا واعين أو مستيقظين وفي كامل قوامهم العقلية والجسدية!
لذلك أقول لك إنه قد تم تخديرهم أو تم دس السم لهم، ثم تركوا للنار أحرقت جثثهم حتى تفحّمت تماماً، وهذا يفسر سر تفحم جثثهم، ثم إن قرمبع كما قلت لك قد منعني من إنقاذ قائدي، بل كان بإمكان قرمبع نفسه أن ينقذهم جميعاً أو بعضاً منهم؛ لو أراد ذلك، بيد أنه تركهم يحترقون ومات معهم، لكنهم كانوا غير واعين ولم يحسوا الألم، لكنه مات طوعاً وإرادة ولا أقول انتحر احتراقاً حتى تفحمت جثته!
بعد ذلك مكثت راقداً على بطني مختفياً بين الحشائش والنباتات في أرض مطار عدارييل قرابة الساعة, وشاهدت كيف تم إخراج الجثث المُحترقة للقادة الكبار من الطائرة، الذين لم يتمكن الآخرون من التعرف عليهم من شدة تشوههم جراء احتراق وتفحم الجثث!
ثم بعد ذلك زحفت على بطني مسافة طويلة حتى خرجت من أرض المطار بجهة الشرق, ثم نهضت وسرت مسافة ساعة كاملة الى أن وصلت الى احدى القرى التي يوجد لي فيها اقارب وأهل, وبعد ان وصلتهم؛ حكيت لهم كل ما حدث منذ إقلاع الطائرة حتى انفجارها، والذين بدورهم أكدوا لي انهم سمعوا دوي الانفجار وشاهدوا ألسنة النيران من على البُعد!
وقلت لهم أنا واثق بأن الحكومة هي التي قامت بتدبير حادثة مقتل القادة والضباط الكبار بعد أن تم تخديرهم أو تسميمهم، فأنا كنت داخل الطائرة وشاهدت بأم عيني كل شيء, وفي رأيي ان العميد عمر علي محمد عثمان قرمبع، كان يعرف الكثير من تفاصيل تصفية القادة ومات بسره منتحراُ, فيما بقي الآخرون الذين دبروا الجريمة البشعة هناك في الخرطوم وفي كراسي السلطة وهم القادة الكبار البشير وعلي عثمان وبكري حسن صالح وغيرهم!
ويضيف الجندي وكيل محمد آدم يعقوب, ولقد زادت مخاوفي بعد أن سمعت في الإذاعة اسمي في ذيل قائمة المتوفين وأنا حيٌّ أرزق!
ونواصل