يا غرامي الأول…
ذكرى لا تتحوّل…
من فؤادي وروحي…
للحبيب الأول…
هكذا قال الشاعر… وغنّى المغني..
وأقول أنا الآن كما قال… وأغني كما غنّى رمضان حسن..
مع فارق في القول… والغناء… والمحبوب..
بل أن لي أكثر من غرامٍ أول… وكلٌّ منه صار آخر غرام كذلك..
يعني – كما غنى زيدان أيضاً – يا أول حب وآخر..
كيف هذا؟…. نقول..
فالطفل لا يعشق كما يعشق الكبار..
ولكن قد يبقى عشقه هذا حيّاً… ما دام هو على قيد الحياة..
فهو غرامٌ مرتبط بتفتح الوعي الطفولي..
ففي كريمة – مثلاً – تفتح وعيي الكروي على المريخ ذات نهار ضد منافس..
قد يكون هو الهلال… أو النسر؛ لا أذكر بالضبط..
وأحببت المريخ منذ تلكم اللحظة… ليس لأنه انتصر؛ وإنما لأسبابٍ لا أعلمها..
فما كل شيء في هذا الوجود يُخضع لمعايير المنطق..
وفي مرحلة تفتح الوعي هذه نفسها كنت أقود دراجتي أصيل يوم خريفي بحلفا..
وبين دروب التوفيقية أظلتني غمامةٌ حيرى..
ولفتت نظري… إذ بدت وكأنها تغطّت بحجاب في لون كحل الحجر..
فعشقتها… وسميتها – فيما بعد – الغيمة ذات الحجاب..
وعشقت منذ تلكم اللحظة الطبيعة..
عشقتها بغمائمها… وأشجارها… وبحارها… وصحاريها..
بل وببروقها… ورعودها… وعواصفها؛ أيضاً..
وتفتح وعيي الغنائي – كذلك – على أغنيات أحمد المصطفى؛ فعشقتها..
فقد كنت برفقة الوالد في حفل يخص مصنع تمور كريمة..
وتضمّن الاحتفال عرضاً سينمائياً من وحدة أفلام السودان… ذات شعار الخرتيت..
وتضمّن العرض ذاته عرضاً غنائياً بالمسرح القومي..
واستهله العميد بأغنية الوسيم… واختتمه برائعة أيّام زمان؛ مع إيقاعٍ حزين..
وكان وجداني الغنائي أبيض… في مثل بياض حُلته ليلتذاك ..
فنُقشت فيه – منذ تلكم اللحظة – أغنياته؛ من لدن الوسيم… وحتى يا عظيم..
وذات مرة طالبني قارئ بالكتابة عنه… بحسباني عاشقاً لروائعه..
وقبل أن أفعل فعل رجلٌ لا يقل عشقاً لأغنياته هذه مني..
إنه مفخرة إعلامنا المرئي – والمسموع – الرائع حدّ الإدهاش عمر الجزلي..
والإبداع إن لم يُدهشك فهو لا يكتمل إبداعاً اكتمال القمر..
وفي بلادي كثرٌ يصعقونك بإبداعهم؛ قصصاً… وشعراً… وغناءً… وإعلاماً..
أو بالأحرى؛ يصعقون ذوي الحس الإبداعي منا..
وفي حلقةٍ مُعادة له عن العميد قال – الجزلي – إن أغانيه لا يعشقها إلا مُتفرِّد..
وجامل كاتب هذه السطور إذ حشره في زمرة هؤلاء..
فأحمد المصطفى كان سابقاً لزمانه حين كسر رتابة اللحن الدائري بأغنية الوسيم..
وما زال سابقاً لزمانه… بأغاني زمان… من قبيل (أيّام زمان)..
ويكفيه إبداعاً إنه استلهم لحن إحدى أغنياته من (بكاء) طفله – آنذاك – عز الدين..
والجزلي يَستلهم إبداعه من (بكاء الزمان)..
ولكنه يبكي شوقاً للوطن الآن من مكانٍ غير ذي المكان… وزمانٍ غير ذي الزمان..
بعد أن تنكّر له المكان الذي أبدع فيه سنين عددا..
والزمان الذي كان يستضيف فيه العميد فيغني (أيّام زمان)..
وفي حلفا تفتح وعيي الفكري على الفلسفة… إذ كانت من بين مناهج الثانوي..
فعشقتها؛ فكاد عشقي هذا يُوردني موارد التّهلكة..
فهي تجعلك تشك في كل شيء… كل شيء… حتى لتوشك ألا تثق في أيِّ شيءٍ..
وإن لم تظلك حينها رحمته – كغمامتي تلك – قد تفقد كل شيء..
وبفضل هذه الرحمة تكتشف أنّ كل الذي تُغرم به من جمال مرجعه إلى الله..
فهو – سبحانه وتعالى – جميلٌ يحب الجمال..
وتفتّح وعيي – كبيراً – إلى حقيقة أن حب الله يمكن أن يكون مسبباً… أو بلا سبب..
وأحد مسبباته إعمال الفكر… في تجليات الوجود ذات الجمال..
فهو إذن – كحال غرامياتي الأخرى – أول غرام..
وآخر !!.