ولما سألت الجندي وكيل عريف محمد آدم عن كيف وقع حادث انفجار طائرة عدارييل التي كانت تقل العقيد إبراهيم شمس الدين وزير شؤون الرئاسة في حكومة الإنقاذ المبادة آنذاك وكبار القادة والضباط الآخرين!؟ ولماذا لم يتم إنقاذهم!؟ وكيف نجا هو شخصياً!؟ ولماذا يُذاع اسمه ضمن المتوفين وهو حيٌّ يُرزق!؟ وهل كانت الحادثة مُدبّرة بفعل فاعل أم كانت قضاءً وقدراً!؟
رد الجندي محمد آدم بقوله: قبل الحادثة بيوم؛ جاء مساءً الى منزلي بحي أبو آدم جنوب الخرطوم، الفريق أول طبيب مالك العاجب حاج خضر، رئيس قسم الرنين المغنطيسي بالسلاح الطبي؛ وهو قائدي ورئيسي الذي أقوم بحمايته وحراسته ومُرافقته في كثير من الرحلات داخل وخارج السودان, جاءني عند الساعة الخامسة والنصف مساءً وكان يرتدي الزي القومي العمة والجلباب وليس البزّة العسكرية الميري والكاكي، وعندما طلبت منه الدخول الى المنزل اعتذر بلطفٍ، وقال لي فلنجلس داخل العربة لأني أريدك في حديث مهم, فاستجبت له واحترمت رغبته في عدم الدخول للمنزل, وجلست الى جواره في العربة البوكس (الدبل قبين)، فيما كان السائق جالساً في المقاعد الخارجية خلف السيارة.
وبدأ الفريق أول طبيب مالك العاجب حاج خضر؛ حديثه لي بقولي غداً بإذن الله سنسافر الى منطقة عدارييل في (مهمة خاصة) برفقة العقيد ابراهيم شمس الدين وآخرين, وهي رحلة مهمة جداً, وأنت ستكون مرافقي فيها وحرسي الشخصي كما ظللت تفعل في الكثير من رحلاتي الداخلية والخارجية, ولكني هذه المرة أترك لك مُطلق الخيار في ان ترافقني او تبقى هنا في الخرطوم فالأمر متروكٌ لك يا ابني, وانت ظللت تقوم بكل ما أوكله إليك من مهام على أكمل وجه ومنضبط ومخلص ومتفانٍ في عملك وأنا اعتبرك بمثابة ابني في المقام الأول؛ لذلك أقول لك قرر ما تشاء السفر برفقتي إلى عدارييل أم البقاء في الخرطوم هنا!؟
وأضاف الجندي محمد آدم: تعجّبت كثيراً من حديث سعادة الفريق، فقد رافقته في كثير من رحلاته الداخلية والخارجية ولم يحدث قط أن طلب مني مثل هذا الطلب؛ بيد أني لم اظهر له اندهاشي وقلت له: لا انا سوف أرافقك واذهب معك إلى عدارييل كما ظللت أفعل دوماً، فشكرني ثم سألني عن أبنائي وأسرتي الصغيرة والكبيرة، ثم منحني ظرفاً ورقياً به مبلغ مالي طلب مني أن أتركه لأولادي، ثم قال لي نلتقي غداً بإذن الله باكراً في المطار وودّعني وتحرك عائداً بالعربة مع سائقه!
وفي صبيحة اليوم التالي، توجهت الى الوحدة مبكراً فوجدت سعادة العقيد حاضراً باكراً كعادته دوماً الى الوحدة وتحرّكنا بالعربة فوراً برفقته الى المطار، الذي وصلناه في تمام الساعة السادسة صباحاً، ووجدنا سعادة العقيد ابراهيم شمس الدين وبقية القادة والضباط الكبار حضوراً جميعهم في نفس الموعد لم يتخلف منهم احدٌ، ودخلنا جميعنا مُباشرةً الى الطائرة العسكرية وكانت من طراز (هليكوبتر)!
وبعد نصف الساعة أقلعت الطائرة وجلس القادة الكبار داخل المكان المُخصّص لهم، وجلست أنا بالخارج بالقرب من قائدي الطائرة اللذين يبدو من ملامحهما أنهما غير سودانيين وربما كانا (خواجات), ولكني كنت أسمع حديث القادة والضباط الكبار بوضوح حتى ضحكاتهم المجلجلة سيما العقيد إبراهيم شمس الدين!
وبعد نصف ساعة تقريباً خرج سعادة العميد (عمر علي قرمبع) وحمل لهم وجبة الإفطار والشاي والقهوة وعاد داخلاً اليهم وأغلق الباب من خلفه، بعدها بنصف ساعة لم أسمع لهم أي حديث أو همسة أو تعليق وصمتوا جميعاً صمتاً مطبقاً بعد تناول الإفطار والشاي والقهوة التي أدخلهم لهم العقيد عمر علي قرمبع؛ حتى تعليقاتهم وضحكاتهم توقّفت وصمتت نهائياً؛ وعلى الرغم من قربي من المكان المخصص لهم بيد اني لم أسمع لهم حرفاً أو كلمة واحدة!!
فقلت في سري لعلّهم كانوا يتحدثون بصوتٍ خافتٍ, لكن طال صمتهم بصورة مُحيِّرة وغريبة كأنما قد ناموا جميعاً في وقت واحد بعد تناول وجبة الإفطار والشاي والقهوة، في الوقت الذي كان يخرج فيه ويعود إليهم العميد عمر علي قرمبع ما بين فينة وأخرى، وقد اثار دهشتي وحيرتي سكون حركة القادة نهائياً!
وبعد ربع ساعة بدأت الطائرة تهتز بقوة كأنما قد اصطدمت بصخرة كبيرة أو حاجز ترابي أو سياج حديدي ضخم، حتى إنني سقطت على أرضيتها الداخلية من شدة الصدمة، ثم وقع اصطدام آخر أقوى وأكبر وبدأ يخرج دخاناً وألسنة لهب من مقدمة الطائرة، وانتشرا سريعا فيها، واصبحت الأجواء خانقة وقاتلة ولا تحتمل داخل الطائرة حتى اني لم أعد أرى أو أميز شيئاً؛ فأدركت أن الطائرة بدأت تحترق، سيما بعد تصاعد ألسنة اللهب من الكابينة وانتشارها في أجزائها سريعاً, ولكن رغم ذلك لم تصدر أية حركة من القادة!
فنهضت واقفاً سريعاً واتجهت إلى المكان المُخصّص للقادة لإنقاذ قائدي الفريق أول طبيب مالك العاجب حاج خضر، فهذا واجبي وعملي ومُهمّتي الأساسية، إنقاذ قائدي أولاً حتى لو أدى ذلك للتضحية بروحي ونفسي!
ولكن أغرب ما في الأمر لم أسمع لهم حركة أو جلبة ولم يخرج أيٌّ منهم، رغم انتشار اللهب وألسنة النيران والدخان في كل أجزاء الطائرة؛ وعندما حاولت الدخول خرج العميد عمر علي قرمبع ومنعي، بل وامرني بالقفز من الطائرة التي بدأت تحترق بالكامل وأصبحت مثل الفرن من شدة الحرارة بعد انتشار النيران سريعاً ولا يمكن أن يحتمل كل ذلك إنسان حي، حتى إن الطاقية والبورية والكاب الذي كنت أرتديه فوق رأسي احترق تماماً من شدة الحرارة وانتشار النيران داخل الطائرة، ولكن رغم ذلك لم يخرج أي من القادة ولم أسمع لهم حركة أو صياحاً!
ولما أصررت على الدخول اليهم وإنقاذ قائدي، وقف العميد عمر علي قرمبع في وجهي وطلب مني القفز الى خارج الطائرة بحزمٍ، وقال نفذ الأوامر يا عسكري، ثم دفعني بقوةٍ وعُنفٍ نحو الباب الطائرة!
ونواصل!