مُنى أبوزيد تكتب : في مواسم الضجر..!
“بَطِر الرجل أي وقع في الكبرياء وغلا في المرح والزهو، وبَطِر النعمة أي استخفها فكفرها”.. معجم المعاني الجامع..!
“الخميس، العاشر من أكتوبر، عام 2011م”. أنا رجل نمطي كسائر الرجال، أكره أن ينظر غيري إلى أي شبر ينحسر عنه ثوب زوجتي، أحب أولادي، أخلص في عملي، أحترم تقاليد مجتمعي، أصغى إلى سخافات الآخرين بابتسامة مُجاملة في أغلب الأوقات، أحرص على هندامي، أحترم عملي، وأهتم كثيراً بتنظيم وقتي..!
أبدو أمام الآخرين رجلاً ناجحاً، يستحق رتبته المرموقة، وأسرته الدافئة، وملامح الحياة السعيدة التي يكاد يجزم بها كل من حولي. لكنني في الداخل – في ذلك العُمق الذي بالكاد أسمح بأن يطّلع عليه أحدٌ – شخص آخر، يقضي أيامه بانتظار حكاية ما، أو على وجه الدقة أنثى ما، تعيد صياغة تلك الفوضى العارمة التي تعتمل في أعماقه..!
أنثى خاصة، تعيد كتابة تاريخه، تمسك بأكتاف حياته الخاوية وتهزّها هزّاً لتمنحها بُعداً جديداً، بُعداً زاخراً. أنثى ظل على يقين بأنه سوف يلقاها يوماً، ثم توارى ذلك اليقين خلف أحداث الواقع وزخم المعيش، حتى صار مثل باقة ورد مجففة ترمز إلى لحظة احتفال خاصة، تحوّلت بمرور الوقت إلى ذكرى بعيدة، وبقي جفاف الورد هو الشاهد الوحيد على كونها حقيقة..!
في ذلك اليوم الذي بدأ طقسه عادياً لا ينذر بشيء خاص، حزمت حقائبي وودّعت أعزائي، وأنا أفكر بقضاء رحلة سعيدة، يغسل فيها السفر إلى أرض غريبة – والتجوال بين أشخاص غرباء – بعض الكدر الذي يتراكم مع تواتر ضغط العمل، وسماجة الروتين العائلي، وانحسار مساحات الخصوصية الذي تفرضه ديناميكية الحياة المستقرة..!
إلى أن رأيتها أمامي في صالة الوصول، كانت غاضبةً من أمرٍ ما، ساخطةً على شيءٍ ما، تتحدّث عبر هاتفها النّقّال وهي تكاد تَصرخ من فَرط الانفعال. لكنها – رغم ذلك كلُّه – كانت جميلةً بطريقةٍ يصعب أن تُوصف، وجذّابةً على نحوٍ يصعب أن يُطاق..!
تأمّلت تعاقب العاصفة والسكون على ملامحها الساحرة وأنا أسأل نفسي كيف يمكن لثورة غضبٍ عارمة أن تكون بكل هذا الجمال. راقبت انهمار دموعها بعد انتهاء حديثها الهاتفي بابتسامة هادئة وأنا أفكِّر كيف يسعدني وكم يشرفني أن أغسل كل هذا الحُزن – بكل صبرٍ واجتهادٍ – كي أنعم بتلك الابتسامة التي عشت دهراً وأنا انتظر مجيئها. ثم قد يكرمني الله فأكون سبباً في تلك الضحكة المتخيلة التي ظللت أجزم بأنها سوف تخرج حلمي الكبير من قمقم انتظاره..!
ما حدث بعد ذلك كان يفوق أحلامي، صافحتني وهي تخاطبني باسمي الثلاثي، واعتذرت عن التأخير لدَواعي مُكالمة هاتفيّة مُزعجة، عطّلت ترحيبها بقدومي، إنابةً عن رئيسها في العمل – صديقي وشريكي – الذي اعتذر عن الحُضُور لاستقبالي لظرفٍ قاهر. “كنت بانتظارك”. “أنا أيضاً كنت بانتظارك”. قلتها بصدق وأنا أتأمّل أصابعها الخالية من خاتم الزواج..!
ظللنا صامتين طوال الطريق. هي تُفكِّر بأسباب العاصفة التي أثارتها عبر الهاتف، وأنا أُفكِّر بالسكون الذي سوف يعقب عاصفة أخرى، سوف تُثيرها زوجتي – لا محالة – بعد أن تعلم بقراري الذي تأخّر كثيراً..!
“الخميس، العاشر من سبتمبر، العام 2018م”. كنت أحتاج إلى بعض العزلة عندما سافرت إلى تلك الجزيرة الهادئة، لكنني لم أتصوّر يوماً تلك العاصفة التي ثارت في أعماقي وأنا أراها تمشي في بَهو الفندق. هذا هو بالضبط ما كنت أبحث عنه، ما ظل ينقصني طوال الوقت، على الرغم من كوني أباً وجداً وزوجاً لسيدتين جميلتين. قلبي يحدثني بأن هذا الجمال الخلاسي سيكون ملاذي الأخير الذي آوي إليه في مواسم الضجر ..!
“الخميس، العاشر من أغسطس، العام 2021م”. بقيت خانة واحدة في رخصة التعدُّد، ولم يبق في العُمر مُتّسع، ولم يتبق في الصحة مُستودعٌ، لكن تلك الهيفاء ممشوقة القوام تُسيطر على تفكيري، وتُحَوِّل ثباتي الانفعالي إلى فوضى من المشاعر، وأنا قد اتّخذت قراري الحاسم. الآن سوف أحسم هذه الفوضى..!
مُنى أبوزيد