واليوم جمعة..
وهو اليوم الذي كُنّا ندمن فيه زيارة الشجرة المحبوبة… على ضفة نيل كريمة..
بينما كبارنا كانوا يرونها شجرة ملعونة..
لماذا؟… لست أدري… وأنىَّ لعقولنا – في تلكم الأعمار الباكرة – أن تدرك المخبوء؟..
المخبوء خلف ظاهريات الجمال..
وبعض أفرعها كانت تنتهك حُرمة حدود مصنع البلح غرباً… وشاطئ النيل شرقاً..
وقد يبلغ ظلها مصلحة النقل النهري شمالاً..
ثم شجرة دخرينا – بائعة الكسرة بالمفروك الأخضر – للمسافرين جنوباً بغرب..
فهي شجرة عتيقة… وكأنما ظهرت إلى الوجود مع جبل البركل..
ومن (معتقات) هذه المدينة – أيضاً – كنيستها التي شهدت أغرب قصة بين يافعين..
أحدهما مسلم وهو وهبي… والآخر أنثى قبطية هي ماجدة..
وقد حكيت قصتهما هذه تحت عنوان (ذات الصليب)… وعن دهليز الكنيسة المخيف..
المخيف لنا – نحن الصغار – بصمته ذي الطنين..
كانوا يصرخون في وجوهنا – كلما علموا بفعلتنا – (ألم ننهكم عن تلكم الشجرة)؟..
وكنا نعجب؛ لماذا يمنعوننا منها؟..
فهي شجرة ظريفة… ذات ثمارٍ لطيفة… وظلالٍ وريفة… ومراقٍ نظيفة؛ هكذا كنا نراها..
أنا… وعماد… وشعبان… ومبارك… وممدوح القبطي..
وذات جمعة انسربنا إليها عصراً؛ فأنسانا سحرها أنفسنا حتى زحف نحونا الظلام..
وهو السحر ذاته الذي أبدل ثمارها من زونيا إلى أعينٍ تلمع..
ثم تحدق فينا من كل موقع لها في الشجرة… وكأنها عيون قطط صُوِّب نحوها ضوء..
ومن أسفل منا ترتجف أضواءٌ بفعل حركة أمواج النيل..
أضواء باخرة؛ لعلها كربكان… أو الجلاء… أو الزهرة… أو عطارد… أو الثريا..
وفانوس دخرينا ينبئ عن وجودها تحت شجرتها؛ لا تزال..
فما دام هنالك ركاب يجيئون ويذهبون – ما بين الباخرة والقاطرة – فهي لا تبارح..
ثم لا ينضب ملاحها… ولا كسرتها… ولا صبرها..
أما نحن فقد بدأ صبرنا ينضب إزاء سحر الزونيا… وسحر المكان… وسحر الأجواء..
سيما حين انبثق لنا رعبٌ ثانٍ خلاف رعب أعين الثمار..
رعبٌ تبدى في فحيحٍ… وزفيرٍ… وشهيق… من تحت الشجرة؛ لم ندر ما مصدره..
أو اجتهدنا في أن ندري… ولكن تعذّرت علينا الرؤية..
ولم يعنا ضوء قمر بزغ أحمر قانياً – لحظتذاك – على أن نبصر ما أسفل منا..
أو (مَن) هم أسفل منا… عند الجذع..
وأقول (مَن) لشكنا في أن ذلكم الشهيق – والزفير – يمتان إلى جنس البشر بصلة..
واحتبست أصواتنا من شدة الرعب..
فلم نقدر على الصراخ جذباً لانتباه مَن هُم حول دخرينا… أو مَن هُم في مُحيط الباخرة..
وتذكّرنا مقولة كبارنا: ألم ننهكم عن تلكم الشجرة؟..
ودام الرفث ذو الفحيح من تحتنا – والذي بدا لنا غير بشري – حيناً؛ ثم انقطع..
وانقطعت صلتنا نحن بشجرتنا الحبيبة..
وبعد فترة علمنا أنّ ملك الطمبور – النعام آدم – يصدح ببيت مدير النقل النهري..
فأخذتني قدماي – أو أخذتهما أنا – إلى هناك..
ثم أخذتهما – وهو لم يزل يترنّم برائعة (الزول الوسيم) – إلى شجرتنا الوسيمة..
وكانت على مَقربةٍ من المكان..
وعلوت ببصري الشجرة مُستهدفاً ثمارها التي ما زلت أشتهيها إلى يومنا هذا..
فأصاب بصري الهدف… بل أكثر من هدف..
غير أنّها ما كانت تبرق كأعين القطط بفعل ضوء مُسلّطٍ عليها… ولا تنظر نحوي..
بل كانت كما عهدتها قبل ليلة الفحيح..
زونيـــــا !!.