أعزائي من حقكم علي أن أعتذر لكم عن غياب الصفحة في الأسبوع الفائت.. ولا سيما وقد قطعت وعداً على نفسي ألا أكف عن لقائكم ما دمت قادرة على الكتابة.. وما دام قلمي قادراً على معانقة الورق.
عموماً معذرة، فقد كنت خارج السودان في رحلة عمل.. وكان يمكن أن ألقاكم ولكنها المشاغل أدامها الله علينا ما دامت من أجل الغير والخير ومن أجل هذا البلد الحبيب.
من أهم اللحظات في الحياة تلك التي ينفرد فيها الإنسان بذاته يحاورها ويناقشها ويسائلها ويحاسبها.. ولا أدري رأي الآخرين، ولكن من أمتع وأسعد لحظاتي تلك التي أنفرد فيها مع نفسي.. وللانفراد بالنفس في الوطن طعمه ولونه.. ومادته وللانفراد بالنفس بعيداً عنه طابعه ولونه ومادته المختلفة..
وإن كنتم افتقدتم الصفحة السبت الفائت فأنا افتقدتكم كلكم وإن كنت مع شعب شمال الوادي بكل تاريخه النضالي وعراقته التاريخية.
ولكن كنت مع نفسي من أجلكم طرحت عليها الكثير من الأسئلة والواجبات.. سألتها لماذا أكتب؟ وماذا أكتب؟ ولم أسألها كيف أكتب؟.. لم أسألها هل أكتب بأسلوب ألف ليلة وليلة.. أم بأسلوب الجاحظ.. أم بأسلوب المقامات.. أم بأسلوب القاضي الفاضل.. فقد تحول عندي السؤال إلى أبعد وأعمق.. إلى الموضوع ووظيفته إلى لماذا أكتب؟؟ ولمن أكتب؟؟
فعبارة لماذا أكتب ظلت تساؤلاً ضائعاً مدة من الزمن على صعيد عالمنا الأدبي وعلى صعيد تراثنا العربي مع احترامنا المطلق إليه.. ولعل كلمة لماذا أقلقت الكثيرين.. وفتحت آفاقاً جديدة وحددت مهاماً ووظائف سامية للكتاب والمبدعين.
أعزائي هذه المرة الأولى التي أنقل فيها حواراً مع نفسي للآخرين ولكنه هذه المرة يهم الآخرين بصورة محددة وحادة.. وليعذرني الجميع في استخدام كلمة “أنا” فإنها أبغض الكلمات الى نفسي وأكثرها تعسراً على قلمي ولساني.
خرجت من مساءلتي لنفسي بأني أكتب لأني أحب الناس جميعهم ولأني أومن بأن الإنسان هو الوسيلة الوحيدة والأصيلة التي تعلن بها القيم والسلوك والمبادئ والمفاهيم عن نفسها.
والإنسان منذ أن وجد على ظهر الأرض حاول أن يعبر عن هذه المسائل قبل أن يعرف الكلمة.. عبر عنها الإنسان الأول بالرسم والحركات والإشارات وعندما عرف الكلمة.. أدرك أنها هي الكائن الأوحد الذي يقهر الموت لا بمعنى أنها تصده ولكنها تتخطاه, فالموت قد طوى أجساد أمرء القيس والنابغة وطاغور وشكسبير وجوركي وفولتير ولكنه لم يستطع أن يغيب كلماتهم وأفكارهم.
أكتب لأني أومن بمسئولية الكلمة في التعبير سواء كانت شعراً أم نثراً.. رواية أم مقالة.. ان التاريخ كله وتارخ الفنون بما فيها الكتابة يؤكد أن القوى الخيرة والمتقدمة كانت دائماً متمسكة بالجانب الإيجابي لوظيفة الكلمة المكتوبة.
وترى أن إبداع الإنسان في كل مجالات الحياة هو سلاح فعال لكشف العالم من أجل تغييره إلى الأفضل دائماً.. بينما كانت القوى المتحجرة والسلفية تكتفي وتعمل على أن يكون الفن مسلياً وملذاً.. فهم لا شأن لهم بالجماهير وهمومها في الخبز والحياة والعمل.. وإنما ينصرفون إلى معالجة “المواضيع الصافية” معتصمين بالأبراج العاجية ونظرية “الفن للفن”.
وظل العطاء الفني الخالد عبر العصر متمكناً من كشف جوهر عصره على الدوام مشيراً إلى القوى الغاربة والقوى الصاعدة.. متحيزاً دائماً إلى القوى الحديثة والمتقدمة.. ولا شك في أن كشف الفن للنفس البشرية نقاط ضعفها وقوتها.. انحطاطها ونبلها.. هو أيضاً انعكاس للواقع المعاش.. كل الفنانين الكبار شعراء أو كتاباً كانوا جنوداً بالقلم والحس في جبهة القوى الاجتماعية الصاعدة ومن خلال نظرتهم الموضوعية والسامية إلى الجوانب العديدة في التراث يرددون بذور الجديد في القديم ويولونها رعايتهم إلى أن تأخذ في النماء والإتيان بالثمر.
لأني أومن بهذه الحقيقة الناصعة لوظيفة الكتابة أياً كانت.. أكتب لأساهم في نشر هذا المفهوم وأقول وجهة نظري من هذا المنطلق.. ولا أدعي أن وجهة نظري لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها.. أبداً فكل رأي وكل حوار يمكن أن تكون به أوجه الخطأ أو النقص.. ولكني دائماً أعيش لحظات صدق مع نفسي في وضوح وصفاء.. وأضعها دائماً موضع التلميذ المطيع الذي يتلقى دروسه في اهتمام وانتباه.. ونفسي تلميذة مطيعة تتلقى الدروس بلا انقطاع من الناس.. من الجماهير.. من الكتاب والفنانين.. مهما كان الوضع, فالجماهير هي المعلم الأول والأخير.. وقضاياها هي المادة الأزلية والخالدة للكتابة والإبداع في جميع صورها.
وأخيراً أكتب.. ولا أستطيع أن أكف عن ذلك لأنني أحب أن أعطي دائماً لهذه الأرض ولهذا الشعب الأبي.. وأعطيه ما عندي ولو كان ضئيلاً فهو الذي يزيد معرفتي وهو الذي من أجله أبحث عن المعرفة في كل مجالاتها لهذا ولأسباب عديدة وكثيرة أكتب.. وسأظل..
- وجهة نظر:
هذه قصتي
الأخت الأستاذة آمال عباس
تحية طيبة..
هذه قصتي مع الحياة وأعماق الحياة، فكانت حياتي الحقيقية.. وشعرت بحياة الحياة مع حياة روحي زوجتي العزيزة أبقاها الله لي ذخراً مع حفظه ورعايته لها.. قال الفيلسوف الأمريكي اميرسون في الحياة “الحياة إنها بحر واسع متلاطم الأمواج تسير فيه وفوق سمائه السفن.. سفنه من كل حجم ولون.. سفن صغيرة وكبيرة.. سفن تملأ الريح أشرعتها فتدفعها وتحركها وسفن أخرى حديثة تسير بالآلة كلها تطفو على السطح وكلها تحاول أن تدرأ عن نفسها خطر الأهواء والأمواج وكلها بعد هذا تتحرك في هدف واحد الوصول بمن فيها وما عليها إلى شاطئ الأمان”.
أين سفننا نحن الشباب بين السفن؟! بلا شك عندي لكل سفينة في الحياة صغيرة وكبيرة تمخر به عباب بحار الحياة الفجة والعميقة بعيدة الشاطئين.. وبلا ريب وشك كان قبطانها ماهراً.. قادراً مقتدراً.. حتماً سيصل بها بسلام وإن كان غير ذلك ما النهاية؟؟ النهاية ستتوه سفينته وسط أمواج الحياة العالية فتضل طريقها وتصطدم بصخرة الواقعية وتغوص في القاع ويغيب أثرها من الحياة فتنتهي الحياة والسفينة.
أما أنا الشاب مثلكم كانت سفيتني تائهة في بحار الحياة بلا قائد ماهر يقودها لشط الحياة المشرق الجميل.. كانت أحياناً تمخر بلا هدف حتى ينفد وقودها وأحياناً أخرى تعطب بمنتصف الطريق فتشل حركتها وأبدأ إصلاحها من جديد وأبدأ بها مسيري مجدداً بكل العزم والحزم لأصل بها وبي لشاطئ الحياة الآمنة.. تدخل في نفسي العزة بالقدرة باجتياز المخاطر والبحار بسفينتي في الحياة لأصل الحياة وكان نهاري ليلي وليلي نهاري أواصل الإبحار بلا تبرم وسأم.. في نفسي كبرى الغايات ونفسي تزخر بالأماني في الحياة كما يزخر بحرها بالأمواج بما تشتهي ولا تشتهي سفينتي.. سرت أتحدى بها عوامل الطبيعة العاتية حتى دنوت من النهاية فدخلت في نفسي الغبطة.. والحسرة ولكن غابت شمس يوم الوصول فتاهت وضلت سفينتي الطريق فتحطم شراعها هناك أمام صخرة عاتية خارت قواي أمامها فكانت النهاية فقد السفينة وضياع قائدها بين أمواج الحياة وعشت لياليها بنور وبلا نور.. وبنور ضئيل أحياناً فصحوت بعد فوات الأوان.
بدأت أبني من جديد سفينة مصممة تصميماً يدرأ عنها أخطار الأنواء فكان وقودها الإصرار والعزيمة والعمل, فحددت نقطة الانطلاق من هنا حيث صحوت من ليلي, ليلي التائه غائر المعالم في صحارى الليالي المظلمة المنيرة وإن كان نورها أحمر.. فالنظر لا يحتمله بعد قضاء وقت زمانه المحدد الموعود فهذه حقيقة.
أختي أخي الشابين حددت لنفسي أروع صور الحياة الجميلة تبادرت صورة رائعة تلوح في أفق حياتي الذي أشاعت فيه نور الحياة من جديد وبعثت فيه الأمل وبنت فيه الرجاء وعصرت في روحي رحيق الحياة عذب المذاق وأضاءت في ناظري عتمة الليالي فكانت الانطلاقة الكريمة للحياة وكانت لروحي الزاد ولسفينتي الوقود.. فكانت غايتي.
أفردت شراع سفينتي فأبحرت أنشد الأمان والراحة تحت ظلال واحتي الوارفة هناك في أعالي الحياة السامية وسفينتي تمخر عظيمة بإصرار لم أعتبره من قبل لم تعبأ بالأمواج والرياح فسارت الليالى الطوال بلا كلل أحس ولا يعتريني سأم.. لأني غيرت ما بنفسي من براثن الماضي ونسيت سفيتني الغارقة المحطمة في القاع, وفي ذاكرتي أبدأ صورة رائعة من صور الحياة الجميلة لاحت في أفق حياتي وفي مساء يوم اثنين من عام 1969م رست سفينتي شاطئ الحياة السعيدة الجميلة فجمعت شراع سفينتي ونزلت أرض السلام والطيبة والمحبة.. أرض الحب والأمان.. أرض الطهر والوداد.. أرض السلامة الأبدية ووليت وجهي شطر الصور الرائعة فوجدتها سامية الروح عفيفة النفس جميلة الشمائل عظيمة الآمال طاهرة القلب بيضاء السريرة.. نقية نقاء الغدير في هدأة الليل فضممتها إلى صدري ووسدتها قلبي وبسطت لها بساط الوفاء والإخلاص فأعطتني أعظم مما أعطيت فكانت تجود وما زالت وللأبدية بالحب.. فعادت سفينتي للحياة منذ خمسة أعوام ولم تزل رغم المخاطر والأنواء التي اعترضتها في عرض بحار الحياة.
فوالله كانت قائدة عظيمة ماهرة مقتدرة انتشلت سفينتي الغارقة وبسلام قادتني للحياة الكريمة, فالزواج إخوتي الشباب أسوة حسنة وحياة سامية طاهرة ومقدسة.. لك يا زوجتي وللأبد احترامي وحبي.
عبدالمطلب الوقيع
الإحصاء الزراعي الخرطوم
مقطع شعر:
قال الشاعر عبد الباسط سبدرات في هذا المقطع:
أكتب أشعاراً بطعم الملح
بطعم الملح حينما يغوص
في فؤاد الجرح
أكتب أشعاراً طاعمة..
طاعمة وحادقة.. وحارقة
بشتى فرع فلفل ورمح
ودواتي مدادها بهار
كأن كل قافية على اللسان نار
أكتب أغنية لعاشق
بالصد والهجران
نبضه قرع نحاس مبتذل الإيقاع
وشوقه شوق نهير شطه لنيلين ضاع
وحين التقى النهير بالشط تاها معاً
في رحلة الضياع
العاشق الكلف المحب للهجران
العاشق الصلف المتخم الأحزان
مات فجأة.. اذ أنت اليه خلصه مفارح الزمان
آه يا حزني الذي علمني أن أخون الفرح
واغتاب المسرة
أنتشي أن تغرك الدمعات عيني فاستغنى كمجرة
تاهت الأفلاك منها..
تسأل الأقمار عنها
أين تاهت
أين بانت تلكم الأفلاك
يا حزن الحجر
ثمل من لسع مأساتي
من أمثالنا:
بركة الكلام قلّته