ونمشي..
نمشي إلى الوراء قليلاً..
إلى ما قبل نحو أربعة أعوام… حين زُرت القاهرة..
وهي آخر زيارة لي إلى مصر؛ بُعيد فقدها كلاًّ من هيكل… وأنيس منصور..
فعزيت سائق تاكسي المطار في هيكل… أولاً..
فإذا به يخفض صوت المذياع ليسأل ببراءة (مين يا فندم؟)… فلم أعزِّه في الثاني..
بل طلبت منه رفع الصوت مرة أخرى..
وكانت تجلجل أغنية لم أفهم منها سوى كلمة (مهلبية) ..
زوج صاحبة العمارة – حيث أقمت – تحدّثت معه عن فاجعة موت أنيس منصور ..
فأجابني قائلاً بنبرة ثقة (بس أنيس ما متش يا باشا)..
فكدت أقول له: هذا وحده سببٌ كافٍ جداً لأن تسميك زوجتك لي (بسلامته)..
وليس لأنك – كما تزعم – (بتبصبص ع البنات)… يا باشا..
وأيام دراستنا الجامعية كان أستاذنا عاطف العراقي يتخوّف من انهيار ثقافي بمصر ..
وسبب تخوفه هذا ذيوع شهرة عدوية… في أعقاب حليم ..
لم يكن يستوعب كل هذا الهبوط للذائقة الغنائية..
هبوطها من علو (سواح)… إلى حضيض (زحمة يا دنيا)..
وما كان يدري أن عدوية قياساً لآخرين من بعده يُعد في مصاف (سيد درويش)..
ومنهم صاحب (المهلبية) هذا..
أما أغرب ما سمعته بالقاهرة – طوال فترة إقامتي فيها – أغنية كلها (عنب)..
ومؤديها واحد صغير – جسماً وفناً – اسمه حسن الصغير..
فمقدمتها عنب… ووسطها عنب… وخاتمتها عنب ..
وكلمة العنب تتردّد فيها بقدر أعداد السيارات التي تزحف كما النمل على الشوارع ..
والقاهرة كانت مُصنّفة كخامس أكثر عواصم العالم ضجيجاً..
ولكني لا أعلم ترتيبها الآن… فتلوثها السمعي بَلَغَ حدّاً لا ينقصه الصياح بـ(العنب)..
وسائق أجرة طلبت منه توصيلي إلى مكتبة مدبولي ..
فنظر إليّ ببلاهة؛ فبادلته بلاهةً بمثلها… ثُمّ طلبت من ثانٍ… فثالث… فرابع..
وكلهم – في غرابةٍ شديدةٍ – لم يعلموا موقعها..
أما أنا فقد علمت ما آل إليه (موقع) مصر الثقافي مصداقاً لنبوءة أستاذنا تلك..
أما الخامس فكانت إجابته (ماشي يا باشا)..
فلما ركبت – و(مشت) السيارة قليلاً – أدركت أنه يُريد أن (يمشِّي) أمره فقط..
فقد دمدم قائلاً (بُص يا فندم… أنا ح أوصّلك حِتّة المكتبات)..
ثم نَفَثَ مع دخان سيجارته عبارة دخانية (وتبقى حضرتك تدوٍّر هناك ع راحتك)..
وما أن مشينا خطوتين حتى أدار مفتاح الراديو..
فمشى معنا (العنب)..
ومشى على مصر – وبلادنا – زمانٌ جاء فيه من بعد حسن الصغير… حسن شاكوش..
ومن بعد عوضية عذاب… توتة عذاب..
وشاكوش هذا لو حضر زمانه أستاذنا عاطف لأُصيب بخبطة شاكوش على دماغه..
ومما يتنطط به على المسرح أغنية اسمها (حبيبي)..
ومشى بها الآن – برفقة أختها (بنت الجيران) – إلى جنوب الوادي… إلى هنا..
إلى حيث صرنا نمشي إلى الوراء؛ في كل شيء..
فمرحباً بك – يا شاكوش – في زمانٍ بات هو نفسه يشبهك..
حبيـــبي!!.