خالد تارس يكتب : التنصيب.. (1)
جُموعٌ غَفيرةٌ احتشدت أمس لتنصيب حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، جاءوا من كل الأصقاع والقُرى. أعلم أنّ آخرين بعيدين لا تعجبهم عبارة (تنصيب).. إلا أنها صارت حقيقة دستورية وواقعاً سياسياً معلوماً.!
فجر الثلاثاء المنصرم هبطت بنا تاركو مطار السلطان، حيث كانت السحب تغطي السماوات والأرضين، وكانت الطائرة تقل على متنها العشرات من أبناء الوطن الكبير، اتوا من فجاج الشمال والشرق والجنوب ووسط السودان، كان الطيران القادم من الخرطوم يحمل ألواناً زاهية من الطيف السوداني، من السياسيين والمثقفين والفنانين ورجال الدين، جميعهم أتوا مُشاركين مراسم تنصيب حاكم الإقليم الذي اعتاد أن يوزع دعواته بالمفتوح لكل الفاعلين والمساهمين في مسيرة إعادة البناء الوطني.
وعندما وقف القائد مناوي في منصة الخطاب، وصف مشاركة أهل السودان في الحدث بأنها تأكيد لحالة (كل البلد دارفور).. وتعزيز شعارات الثورة السودانية النبيلة حرية.. سلام وعدالة. وفي موقف تاريخي أعلن حاكم إقليم دارفور فتح تجارة الحدود مع جميع دول الجوار، واستئناف مشروع شبكات مياه المدن الذي توقف زهاء العشرة أعوام بفعل انتهاء أجل السلطة الإقليمية الانتقالية التي كان يترأسها بموجب اتفاق أبوجا للسلام، كذلك أعلن فتح أبواب الإقليم أمام الاستثمارات الوطنية والأجنبية، وأيضاً أعلن إنشاء غرفة تجارية للإقليم يُساهم فيها جميع التجار السودانيين، وكشف عن دخول القوات المسلحة في تطوير المشروعات الزراعية بدارفور عبر منظومة الصناعات الدفاعية، وفوق ذلك فنّد الحاكم أنّه سيظل خادماً للشعب وفي هذا الشأن أعلن تعاونه التام مع رجالات الإدارة الأهلية.
تنص اتفاقية جوبا للسلام على إنشاء نظام حكم (فدرالي) بالسودان، وبناءً عليه سيتم تعيين حكامٍ لأقاليم السودان المختلفة. كان رئيس حركة تحرير السودان معروفاً في الأوساط السياسية بمواقفه الراسخة والصلبة في التعاطي مع قضايا الوطن الكبرى، وبحكم تجربته النضالية في منابر المُعارضة السودانية المسلحة والمدنية، استطاع مناوي أن ينتزع أغلى الأهداف ضمن استحقاقات قوى الكفاح الثوري المسلح وهو حق التمسك بمشروع الفدرالية السودانية.!
عكف القائد مناوي وعلى مدى سنوات يناهض حكم الاستبداد حتى بعد توقيعه اتفاق أبوجا في خريف عام ٢٠٠٦، كان يقاوم لدرجة أنه ترك الشراكة البائسة مع نظام المخلوع وعاد مجدداً لميدان القتال يبحث عن قضية عادلة تضع حداً لنهاية الظلم في السودان، وفور إعلانه حاكماً لإقليم دارفور شرع الأخ مناوي في إعداد رؤية استراتيجية لحكم الإقليم وسع فيها ماعون المشورة التخطيطية، حيث قام بإعداد برنامج تمّ استعراضه أمام عَددٍ مُقدّرٍ من الخُبراء والمُهتمين في قاعة الصداقة بالخرطوم.
وسيدرك المراقب الفطن كيف استفاد مناوي من تجربة اتفاق أبوجا فيما يلي مسائل الحكم والإدارة، وتفعيل الملفات المتعلقة بقضايا الحرب والسلام، أعتقد وبعد أشهر قليلةٍ سيرى الناس ثمرات يانعة في المصالحات ومعالجة إفرازات الحرب بالإقليم، ثم الشروع في عملية إعادة البناء والتعمير، وعودة النازحين واللاجئين وتوطين الرُّحّل. المؤكد سيرى الحاكم أعلى مسافة متزنة في الجوانب المهمة من خطة بناء السلام المستدام. وذلك بتكوين آلية شعبية للحوار الدارفوري الذي سيخاطب مُشكلات مُعقّدة خلفها نظام الثلاثين من يونيو، وستقوم الآلية الشعبية بمعالجة قضايا التعايش وكل ما يتعلق بالاستقرار والسلم الأهلي، وتحديد منهجية إدارة الأرض واستخدامها، وسينتج ذلك برنامجاً متقدماً في تطوير الحياة الإنسانية وتحقيق النهضة والتنمية المُستدامة في الإقليم.