(2)
طرحنا في الأسبوع الفائت مسألة الظواهر الاجتماعية التي تصاحب مراحل الانتقال من حياة الأمم بشعوبها ومدى تأثيرها على حركة المجتمع سلباً وإيجاباً وكان الحديث يخص الشباب باعتبارهم الحاضر المخضر والمستقبل المثمر.
وبإحساس عميق وكبير بأهمية القضية المطروحة أحاول أن أسهم ببعض الآراء حول التساؤلات التي طرحت من قبل وأقر سلفاً أنها محاولات المجتهد الداعي العارفين والمبحرين في هذا الخضم الهائل أن يجعلوا من قضية الشباب بكل جوانبها همهم الأكبر وشغلهم الشاغل.
لا أملك إلا أن أكرر إقرار لحقيقة قلتها سلفاً وهي أن في استطاعتنا ومقدورنا.. بل ويجب علينا أن نقوم بهمة التشخيص الدقيق والأمين للمشاكل والظواهر التي تكتنف حياة الشباب في السودان.. الشباب كله الرافضون شكلاً ومضموناً والواقعون تحت تأثير نير الجهل والفقر والمرض.. نعدد العيوب وننبه إليها ونضع الحلول دون أن نكيل السب واللوم للشباب.. ودون أن نذرف الدموع تحسراً على الأخلاق الضائعة والمثل المذبوحة.
مع الاعتراف الكامل بمسؤولية المجتمع ككل في تشكيل حياته بعاداتها وتقاليدها، إلا أننا نجد مسؤولية الجيل الذي تحقق استقلال البلاد على يديه كبيرة وهامة فما نشاهده الآن وسط أجيال الشباب فتياناً وفتيات والذين ولدوا كلهم إما قبل أو قبيل الاستقلال.. وإذا سألنا جيل الكبار ذاك هل وفر لهم الجو الذي يكفل لهم حق المعرفة؟ هل قدم لهم برامج تنمية تساعد على خلق حب العلم في نفوسهم؟ هل أعد المعلمين الأكفاء الذين يؤمنون بأن التعليم هو زيادة قدرة العقول على فهم الأمور؟ هل زود المدارس بالمكتبات الكافية؟ هل طرح قضية الذاتية السودانية ودورها في إعادة بناء المجتمع المستقل؟.
والإجابة على جميع هذه التساؤلات واقع أمامنا نحاول أن نجد منه مخرجاً.. مخرجاً من جو محلي يتمثل في:
أ/ ظروف جديدة وفهم جديد مطروح لتنظيم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وشعارات تغيير نحو مجتمع الكفاية والعدل.. وأجيال متقاربة وطلائع تعطي وتعمل.. وتنهل في نفس الوقت لتجعل من عطائها نفعاً وفائدة. طلائع تنتصر على نفسها كل يوم في معركة الجديد النافع الذي يجب أن يحل محل القديم البالي.
ب/ واقع اجتماعي دأب فيه جيل الكبار على اتهام الشباب بالتقصير والخروج عن العرف والأخلاق والدين والانصراف عن كل شيء حتى التزود بالعلم والثقافة وينظرون في حسرة قائلين “انه آخر الزمن!!” “القيامة دايرة تقوم”..”الولد عصى والده” والبنات سعرن ما في فائدة”..
التلقائية الغريزية في النزعة نحو الاستقلال لدى الإنسان تجعل الشباب أكثر ميلاً نحو التحرر من القيود التي يفرضها عليهم الكبار أو المجتمع بتقاليده وعاداته المختلفة الترف الفكري المسرف جنباً إلى جنب وفي البيت الواحد مع الفقر الفكري المدقع.. مع الجهل أطنان الأطعمة الثقافية التي تبثها وتنشرها مئات بل آلاف دور النشر ومحطات الغذاعة وأشرطة الأفلام تجد مكانها هنا وعلى موائد متفرقة ومتباعدة وسط ملايين من الأميين ورسوخ فكرة أن كل شيء يأتي من الغرب أو من الخارج هو الأمثل.. علمي.. عاطفي.. موضة.. قماش.. تحرري أم غير تحرري المهم استلام كل شيء من هناك والدوائر الاستعمارية والصهيونية تجني ثمرة ما غرست.. وتستفيد أكبر فائدة.. وسائل أعلامها تشجع وتبارك كل حركات التمرد والرفض وتلبسها في كثير من الأحيان أثواب “الثورية” وبالطبع غير السياسية لتخرج شعوب البلدان النامية والمتخلفة من مجرى الثورة الطبيعي.. وقد انجرفت مجموعات كبيرة ومتفاوتة في مستوى تعليمها ووعيها السياسي مع هذا التيار. وبالفعل ساهمت هذه الممارسات في تعميق اغتراب أعداد من الشباب لا سيما وسط الطلاب ولم يقتصر الاغتراب على المعنى في اللغة أو الضجر وإنما تعداه في اغتراب في الشكل. والذين لم يحسوا بالاغتراب وصلوا إلى درجة السأم..
إحدى قارئات الصفحة تكلمت معي في التلفون وتصر على عدم ذكر اسمها وتقول إن المجتمع كلام فاضي مجتمع مهترئ ولا يحمل أي نوع من بذور الثمار.. والسودان حفرة كبيرة.. وحاجة منتهية والرافضون أنفسهم كلام فارغ لأن رفضهم شكلي والذين تحدثوا في التلفزيون مجرد ممثلين وناس ما عندهم شغلة.. قالت هذا في انفعال.. استمعت إليها وسط أصوات الموسيقى.. وقلت لها هوني عليك وفيك الرجاء أنت لأنك فنانة..
وعلى الصعيد العالمي ظاهرات نابعة من بنيات مأزومة.. مأزومة اجتماعياً وسياسياً.. مجتمعات رأسمالية غابت فيها حقيقة الإنسان بأبعادها المبهجة وغابت فيها الرؤية لدى الأجيال الجديدة.. صرخوا.. وصرخوا في “البتلز” لعل المجتمع يفيق من غيبوبته.. ارتدوا غريب الثياب.. أرسلوا شعورهم.. خلعوا الثياب نفسها وخرجوا عرايا.. وقيل إن مظاهراتهم العارية يلاقيها المارة بالنظرات الفاترة.. وهم الآن يضعون فلسفة..
في أحد أعداد مجلة الأسبوع العربي الصادرة في أبريل لفت نظري كلام كثير مكتوب عن الهيبز يدور حول أن كاتباً عربياً يريد أن يخرج فيلماً عنهم.. وهم قد كتبوا فلسفتهم وأسموا كتابها “الكتاب الوردي للإنسان الهيبي” وتحدثوا فيه عن فلسفتهم وأقوالهم المأثورة.. ومن إحدى مأثوراتهم “احذروا الرجال الذين يريدون أن ينظموا كل شيء.. احذروا مجانين التنظيم.. إنهم لا يفهمون شيئاً فليس المهم أن يكون الرجل طيباً أو شريراً فالسيطرة في حد ذاتها شيء سيئ”..
هذا زيادة على الفلسفة التي حاول أن يضعها “ماركوز” حول تصوره الجديد للحرية في كتبه “الإنسان ذوالبعد الواحد” و”نحو التحرر” و”النفس” والتي تتخلص كلها في أن تحرر الفرد يجب أن يتم أولاً من طغيان أي سلطة قمعية سلطة الآلة من مجتمع التكنولوجيا.. أو سلطة الأب أو المجتمع أو الحاكم.. وحريته التي ينادي بها حرية اجتماعية وبيلوجية معاً.. على الإنسان أن يفعل ما يشاء وكيف ما شاء ومتى ما شاء..
هذا يسير جداً من كثير جداً يشكل المناخ الذي حولنا ونستطيع أن نقول إن نزعة الرفض لدى شبابنا قائمة على ردود “الفعل” وليس على “فعل” إنها رد فعل على الهجوم الذي يلاقيهم به المجتمع.. إنها رد فعل للهزيمة أمام النقلة المفاجئة للمجتمع ورد فعل للتحرك البطيء نحو الاهتمام بهم فهم حتى بعد قيام ثورة مايو الاشتراكية وفي سبيل البحث عن الفعل لجأوا الى خارج المجتمع الذي يعيشون فيه.
مع هذا كله من الطبيعي أن يكون واجبنا كبيراً وصعباً ومن الطبيعي أيضاً أن يكون وضع الحلول والبرامج أكبر مني.. وهذا ما أردت ـن نحمله كلنا معاً.. نكون له “جمال شيل” راكزة للحمل وأنا في انتظار المناقشة.
- وجهة نظر
المحكمة البيضاء
المحكمة البيضاء.. ذات الضمير والفعلة والنية السوداء هي التي تغلب منطق الأشياء.. فالاستعمار في حد ذاته عملية عنف وقهر وظلم يمارسها القوي على الضعيف ويزداد هذا العنف يوماً بعد يوم كلما زاد احساس الضعيف بالاضطهاد والعذاب وتاريخ الاستعمار في افريقيا مكتوب حرفاً حرفاً بدماء المناضلين من أبناء القارة.. منذ ان دخلوا تجاراً بالآدميين يشحنونهم بالبراميل والسفن الى أن ادعوا أنهم يبشرون بالحضارة وينشرون العلم وينيرون ظلام أفريقيا والإنسان الأسود.. يقولون إنها رسالة الخير والمحبة يقوم بها الأبيض نحو أخيه الأسود الأقل درجة منه في الإنسانية والتطور ليؤكدوا قولهم هذا نقلوا ودعموا الكثير من الأفكار والأقوال والحكايات والقصص حول بعض القبائل الافريقية التي “تأكل لحوم البشر” والقبائل التي تتحول الى حيوانات.. والقبائل التي تتوحش”..
سخف.. مع اعتذاري لاستعمال هذه الكلمة ولكني ما وجدت غيرها تعليقاً على حكم المحكمة البيضاء التي برأت القاتل لأنه قتل قرداً وبالفعل هذا لا يدعو للاستغراب والتعجب.. وإنما لا يحدث إلا في محاكمة البيض الذين يصرون على نشر مثل هذه الأكاذيب تأكيداً بأن السود أقل مرتبة من البشر وإذا صح الاعتقاد وهذا افتراض وهمي لامتلأت شوارع جنوب أفريقيا وكل المستعمرات في افريقيا بالأسود والنمور لتنهش جسم الاستعمار الذي ما زال يلاحقها بأكاذيبه وإشاعاته.
هذه وجهة نظري حول ما جاء في جريدة الصحافة الصفحة الأخيرة بعنوان “هل يتحول الإنسان إلى حيوان ولنعيد الخير الخبر بنصه”.
“أغرب قضية في التاريخ تحدثت عنها الصحف في بريطانيا حدثت في جمهورية “غابون” الإفريقية.. غرابة القصة في أنها تؤكد خرافة ظل آباؤنا وأجدادنا يتحدثون عنها كثيراً وهي أن بعض الناس ينقلبون إلى حيوانات.. ثم يعودون مرة إخرى الى حالتهم الطبيعية، فقد قالت الصحف إن بريطانياً يعيش في تلك الجمهورية ويعمل في زراعة الموز قد قدم الى المحاكمة بتهمة قتل جاره “أكيد” الغابوني بالرصاص.. وقال هذا الرجل في دفاعه إنه عندما كان يصطاد القرود التي داهمت مزرعته وهذه هي هواية من هواياته شاهد قرداً ضخماً يهجم عليه ويهم أن يفترسه فبادره بوابل من رصاص بندقيته وجرى القرد وهو يصرخ صراخاً غريباً ثم وقع على مسافة ميتاً وعندما وصله وجد أنه قد تحول إلى آدمي هو جاره وقد حكمت المحكمة بالبراءة لأن الغلطة كانت غلطة الجار الذي انقلب قرداً وهاجم مع القرود مزرعة الرجل الأبيض والطريف في هذه القضية ان الصحف قالت إن هذا الصياد اصطاد حتى الآن 2000 قرد.. ما رأي العلماء في هذه القصة الغريبة..؟!
مقطع شعر:
قال أحمد عبد المعطي حجازي:
يا أصدقائي اقبلوا إني حزين
تحسسوا جرحي.. وانصتوا لسيال الدماء
صوت دمائي في الرمال مثل خافت البكاء
يا أصدقائي اقبلوا.. صبوا العزاء
صوت حبيب عالم من الصفاء
صوت حبيب جنة خضراء.. عصفور يغني في الضياء
يا أصدقائي اقبلوا
بابي لكم.. قلبي ادخلوه
تزاحموا من حوله فالبرد يأكل الوجوه
غنوا معي إني حزين
يا إصدقائي مالكم تسمعون ومالها شفاهكم تمضغ قولاً لا يبين
هل مات بيننا الهوى
أم غابت الألفاظ من في
فلم يبق إلا دمي
يا أصدقائي حولوا عيونكم
إن قلت ما لا تفهمون
عيونكم قيد فمي
مربع شعر:
قال محلق يصف تاجوج:
ماها أم شباط ماها أم لباط
ما شقت فريق جابت خباط
المخروطة لي عند اللباط
ما تضحكن بالحيل الملكة جات
من أمثالنا:
كي البحر في صرته