آمال عباس تكتب: وقفات مهمة حصان البياحة والماضي المستعاد
أنا لا أفهم كثيراً في فنون المسرح بشكلها الأكاديمي الوارد في كتب تاريخ المسرح ونشأته منذ عهد اليونان وإلى يومنا هذا, ولكن شيء واحد أومن به إيماناً مطلقاً وهو أن المسرح هو المحل الوحيد الذي يعري الإنسان ويجعله وجهاً لوجه أمام نفسه وأمام الحقيقة.. ولذلك أحرص دائماً على مشاهدة المسرح..
ذهبت وكانت سعادتي بالغة وأنا أتابع الحركة المسرحية الجادة التي تنتظم جو الخلق والإبداع في السودان. وكنت ضمن الذين شاهدوا مسرحية “حصان البياحة” وكما قلت لا أريد أن أتحدث عن الأداء ولا عن الرواد وإن كان هذا مهماً.. لسبب واحد وهو ان الموضوع الذي أثارته هذه المسرحية كبير.. كبير جداً بحيث أنه غمر روعة أداء الممثلين ولا سيما الأخ عبد الواحد عبدالله (الراوية) والأخت فائزة (الرضية) وروعة الإخراج الذي استطاع أن ينقل الرواد الى جو روحي أظن أنه قد حقق لهم الكثير من السعادة..
المسرحية في حد ذاتها كانت عرضاً وثائقياً لجوانب من الحياة الاجتماعية والسياسية ابان فترة تاريخية هامة في تاريخ السودان هي فترة (مملكة الفونج) والفترة أهميتها تتمثل في كونها شهدت بذر النواة الأولى لخلق الذاتية السودانية المتعارف عليها الآن في غالبية أنحاء القطر المترامية..
والموضوع الذي ظل يشغل ذهني منذ أن خرجت من المسرح بالإضافة الى مجموع تعليقات الرواد الذين كانوا بالقرب مني هو ما يمكن أن يقدمه المسرح بطرحه لمثل هذه اللوحات التاريخية حيال فهمنا وتعاملنا مع التراث. وهذا في رأيي موضوع كبير استطاع الأخ عايدابي والأخ محمد شريف والأخوات والإخوة الممثلون تبيانه في صورة إيجابية توحي لكل من شاهد المسرحية بالبحث عن أصولها.. بالبحث عن إسماعيل صاحب الربابة الذي يظن الكثير من الناس أنه من خلقه المؤلف بينما هو شخصية حقيقية تمثل فهماً معيناً لمعنى التوثيق والاهتمام بالطرب أو بمعنى آخر بالفن.. البحث عن الشيخ أونسة ود ناصر.. ولماذا أكل الناس في زمانه لحم الكلاب وسميت تلك السنة بسنة “أم لحم”.. البحث عن الشيخ فرح ودتكتوك.. وعن الشيخ ادريس ود الأرباب وعن الشيخ ابودليق.. وعن… وعن…
حقيقة أن وسيلة التعبير بين الناس هي الكلمات.. ولكن قبل أن تصير كلمات كانت أحداث.. والحادثة كالكلمة أو الكلمة كالحادثة تفتح كل يوم طريقاً للإنسان في مسار حياته.. ونحن في السودان خضنا من المعارك ما لم تخضه الكثير من الأمم.. منها ما هو اقتصادي.. وما هو فكري ومنها ما هو سياسي وما هو أدبي.. وكل هذه المعارك تركت رصيداً في كل مجالات الحياة منه المشرق ومنه المظلم.
فالماضي ليس قائماً أمامي كالأشياء المجردة.. فعندما أقرأ كتاب الطبقات لود ضيف الله وأقف على سيرة علماء وأدباء مملكة الفونج على امتدادها الزمني والتأثيري مثلاً.. أو أذهب الى المتحف القومي وأقف أمام الآثار والتماثيل واللوحات.. أو أستمع الى أحجية أو لغز تلقيهما على مسامعي حبوبتي.. فأنا أرى السودان.. وأرى نفسي بوصفي كائناً اجتماعياً وتاريخياً.. أو بمعنى آخر أجد المعنى الموضوعي لوجود السودان ماضياً.. وحاضراً ومستقبلاً..
إنها مفارقة التراث والتاريخ.. إنها مجموعة من الأحداث.. لا خروج منها ولا عنها وهما حجر الزاوية في البناء القومي.
فباستعادتنا للتراث الاستعادة الواعية يستكمل وجودنا.. وإن لم نبحث جادين عن مقومات هذا الوجود تكون الشخصية السودانية.. شخصية قاصرة.. ولا نريد أن نكون تحت أي نوع من الوصاية شأن القاصرين.
والماضي لا يعاد.. بل يستعاد من أجل القراءة والإصغاء على حد سواء القراءة من الكتب والإصغاء من خلال الحبوبة والمذياع والمسرح.. وفن الإصغاء من الأخير أي المسرح من أصعب الفنون وأعتبرها مثالاً فالماضي من خلال المسرح نستنطقه ونتحاور معه من خلال ذواتنا.. وذلك هو فن السؤال.. فالرجوع الى الماضي لا يتنافى مع الحوار بل العكس هو الصحيح أنه شرط لازم لكل حوار جدي مع الأحداث أو مع الذات.
فالماضي ليس عظيماً لأنه سبق الحاضر, فلكل زمان مشاكله وهمومه يعبرها ويتخطاها إلى ماهو رائع في الإنسان ونحن نستفيد من ذلك الماضي لنكون في صميمه انتقالاً إلى الجديد لا لأنه جديد وإنما لأنه أكثر إنسانية.
على هذا الأساس وانطلاقاً من معنى استعادة الماضي نحاول أن نقف وقوفاً عابراً على اللوحات التي شاهدناها في “حصان البياحة”.. بعد ضربات شديدة على النوبة وخلال ظلمة عاتمة شملت المسرح تنزاح الستارة ويحدثنا الراوية في صوت معبر عن الفترة التي أتت منها اللوحات بينما مجموعة من الممثلين يقفون على جانب من المسرح.. ويتجول أحدهم في ثياب “الدراويش” حاملاً مبخره بين الناس.. وساعتها نزل علي إحساس غريب لا استطيع أن أعبر عنه بالكتابة.. ولكن خيل الي أنه يشبه احساس الصوفي أمام ضريح شيخه.. وهذا مما جعل المخرج ينقلنا بالفعل إلى جو نفسي يساعد على فهم الذي يدور أمامنا من مشاهد ومناظر..
كما قلت لا أريد أن أتناول البنية الفنية للمسرحية ولكن الراوية استطاع ان يثير فينا رغبة مناقشة ذواتنا وأظن هذا هو المطلوب من مثل هذا العرض، فمن خلال الأزياء والديكور والشكل الذي رتبت به خشبة المسرح.. استطعنا أن نقيم به علاقة دائمة مع النصوص بثبات..
شكل المسرح الذي عبر صادقاً عن تلك الفترة سياسياً واجتماعياً.. على جانب المسرح الأضرحة “القباب” وفي قلبه السلطة السياسية “الككر” وعلى طوله وعرضه ممارسة الحياة ومكانة الإنسان فيها.. الحكم.. وعلاقة الفرد بالسلطان الدولة المثلى.. التشريع الدين والدنيا.. والنظرة إلى المرأة.. وإن كانت بعض الصور التي عرضت قد غابت من أفق التفكير المعاصر.. إلا أنها تحمل تساؤلات هي من صميم شخصيتنا.. مثلاً من أقوال الشيخ فرح ودتكتوك في تصنيف النساء ورأيه فيهن قد كان نتيجة لصراع عنيف عبر عنه فرح ودتكتوك منحازاً للغلبة وكان لسان حالها وإذا تأملنا قولته في النساء نجده بالفعل عبر عن رأي الجماعة في ذلك يقول: النساء فيهن حريم.. فيهن رميم.. فيهن دهب مخزون قديم.. فيهن عقارب ساكنات الهشيم.. فيهن هنوت.. فيهم لفوت.. ان تجي من الخلا هي تجي من البيوت لا تديك قوت ولا تخلي كلمة تفوت..
وفي جانب من اللوحات تظهر هذه الحقيقة أي حقيقة التأرجح والصراع في النظرة للمرأة على وجه الخصوص. ففي نفس الحقبة من الزمن نجد لأولاد جابر أخت تدعى فاطمة ويقول ود ضيف الله في كتابه الطبقات (أولاد جابر الأربعة كالطبائع الاربعة أعلمهم إبراهيم وأصلحهم عبدالرحمن وأورعهم إسماعيل وأعبدهم عبدالرحيم وأختهم فاطمة أم الشيخ صغيرون نظيرتهم في العلم والدين ومن الناحية الثانية نسمع “عابدين” في المسرحية يقول بحماس وتشنج “ما دايرين بنات.. ما دايرين بنات” وعندما يسأل يقول “عشان أخوي قال لي ما تلعب مع البنات”..
هذه حقيقة ثابتة وواقع للمرأة عاشته وما تزال تعيشه وقد عبرت عنه مختلف الأهازيج الاجتماعية ومن الأغاني “ودي.. ودي.. الطحين وجع ايدي” “يا أم أحمد دقي المحلب”.. ومن خلال اللوحات واللغة المنقولة بها أحسست بأن اللغة العامية في الأهازيج والألعاب استخدمت استخداماً فنياً وعادياً.. جعلنا في حالة من التجاوب في كثير من الأحيان تصل حد الاستمتاع.. “النوم.. النوم.. بكريك بالدوم.. النوم النوم تعال سكت الجهال” “السمبرية أم قدوم عيش ابوي بقوم بتين”.. “شدت.. حرينا”..
مثلاً عندما أشاهد أمامي الفتاة وهي تؤدي دوراً على المسرح كنت قد أديته مراراً وتكراراً في طفولتي.. أحس أن المعنى الذي كنت أردده وأنا طفلة كان كبيراً وعظيماً..
يا فساتيني الخضيرة بفرها وأطويها
واشوف شبابي فيها
شبابي شباب الوادي
بالخضراء أم بوادي
جيهنة حاربونا
وشدوا جمالن جونا
ضبحنا ليهن زر زر
والزر زر ما كفاهم
كفتهم جودة الله
رقية بت أهلنا
يا ام شعراً مثنى
العودة ليك يا الجنة
هذه الأهزوجة روعة استعادتها فيما تحمل من معان.. الخضرة.. والارتباط بالأرض.. والشباب والكرم.. والتطلع والإيمان بالمستقبل..
عموماً التاريخ لا يعيد نفسه كما يقولون.. وأنا شخصياً لا أرى تطابقاً بين معارك الماضي التي خاضها جدودنا في جميع مجالات الحياة وبين معاركنا التي نخوضها نحن من أجل التحرر والاشتراكية. ولكن الثابت هو أن الأحداث الماضية كبيرها وصغيرها أبعدها وأقربها.. هي التي كونتني بوصفي سودانية.. وكونت أياً منا بذات الصفة.. عرفت هذه الأحداث أم لم أعرف.. فنظرتي للأحداث المحلية والعالمية وتقييمي لها ومجموع مواقفي من كل الأمور.. يحدد لي موقعاً في التاريخ الإنساني كما يشكل ويرسم لي موقفاً كاملاً من الوجود.. هو الذي يجعل مني ذاتاً متميزة.. تعرف بالذات السودانية فمن أجل أن نعرف ذواتنا فاستعادة الماضي ضرورة. أو بالأصح العودة الى المنابع تأكيداً للعراقة والأصالة والانطلاقة.
مقطع شعر:
قال نزار قباني:
متى تفهم؟
متى يا سيدي تفهم؟
بأني لست واحدةً كغيري من صديقاتك
ولا فتحاً نسائياً يضاف إلى فتوحاتك
ولا رقماً من الأرقام يعبر في سجلاتك؟
متى تفهم؟
متى تفهم؟
أيا جملاً من الصحراء لم يلجم
ويا من يأكل الجدري منك الوجه والمعصم
بأني لن أكون هنا.. رماداً في سجاراتك
ورأساً بين آلاف الرؤوس على مخداتك
وتمثالاً تزيد عليه في حمى مزاداتك
ونهداً فوق مرمرة.. تسجل شكل بصماتك
متى تفهم؟
متى تفهم؟
مربع شعر:
قال محلق شاعر الحمران
أتاري يا أم قبيل ألفي عباده
مسوحك بالعطر والناس مراضه
حسيسك من الضمير هرد الكباده
تكتلي الزول سريع قبل الشهادة
من أمثالنا:
أسأل مجرب ما تسأل طبيب..