سراج الدين مصطفى يكتب : نقر الأصابع
عبد اللطيف خضر.. حاوي الألحان!!
(1)
بالتأمل العميق في أغنية بقامة (المصير) يكفي على أنها أغنية تؤشر على عبقرية صانيعها.. فهي احتشدت بكل ما هو مختلف وجديد.. ولعلها واحدة من الأغاني التي مثلت بعثاً في الأغنية السودانية من حيث تركيبتها اللحنية ومفردتها الشعرية.. فهي أغنية تمثلت فيها كل عناصر الأغنية الخالدة..
(2)
وهذا يؤكد تماماً على العبقرية الشعرية للشاعر الفذ (سيف الدين الدسوقي) الشاعر صاحب المفردة العميقة والمتجاوزة.. ولعل الموسيقار عبد اللطيف خضر الشهير بــ (ود الحاوي) وضع لحناً موازياً للنص.. مما أكسب الأغنية بعداً جمالياً وطعماً وروحاً عالية كان مرورها النهائي عبر حنجرة الفنان الذري إبراهيم عوض.
(3)
قصدت تحديداً أن أتوقف عند أغنية (المصير) كنموذج.. ولكن هناك نماذج غنائية لا تحصى أو تعد للملحن العبقري عبد اللطيف خضر ود الحاوي والذي من فرط تميزه وعبقريته كان أصغر موسيقي ينضم لفرقة الإذاعة السودانية، فقد عين بالإذاعة وكان وقتها ابن (14) عاماً في حقبة الأستاذ متولي عيد بمرتب قدره (12) جنيهاً اشترى منها عجلة (رالي) يحمل عليها آلة الأوكورديون التي أصبح يبدلها بأخرى جديدة كل ستة أشهر مما يؤكد على ضخامة المرتب وعظمة الجنيه في تلك الحقبة من الزمان..
(4)
وهو شارك في العزف لكل الفنانين، ولكنه احتفظ لنفسه بعلاقة فن ومحبة خاصة بالفنان الذري إبراهيم عوض، فهو من أكثر الفنانين الذين عزف معهم قبل أن يلج مجال التلحين، وكان إبراهيم عوض في تلك الفترة محتكراً للشاعر الكبير والملحن الفذ عبد الرحمن الريح والشاعر والملحن الطاهر إبراهيم.
(5)
وإذا تأملنا جميع الألحان التي قدمها ود الحاوي نجدها تجتمع تحت عنوان واحد هو التحرر، فأصبحت القاعدة أنه لا توجد قاعدة، فقد تحرر ود الحاوي في قطعه الموسيقية من القوالب القديمة للموسيقى البحتة والتي كانت تضم التراث الشعبي والحقيبة والطنبارة وكل الأشكال الكلاسيكية القديمة.. وظلت تلك الأشكال سائدة حتى تفنن ود الحاوي في تكسيرها واحدة وراء الأخرى، وهنا لن ندخل في تفاصيل أكاديمية (لا تتوافر لنا) لكن يمكن إيجاز القول في أنه نجح في فك أسر الموسيقى من قوالبها التي جمدت مع الزمن، ومع تحول الفن من التطريب إلى التعبير بمقدم الفنان والموسيقار محمد الأمين في مطلع الستينينات أصبح للتعبير الأولوية المطلقة عند الموسيقيين والجمهور على السواء.
(6)
استخدم عبد اللطيف خضر ود الحاوي في تلحين أغنياته إمكانيات مختلفة للتعبير، وقد أثرى بذلك حركة الموسيقى عمومًا فلجأ المؤلف الموسيقي إلى توظيف الأداء الموسيقي بالاهتمام بالأوركسترا وإدخال آلات جديدة وإيقاعات جديدة وتراكيب ميلودية مبتكرة، وببروز ألحانه ذات الثراء أصبحت الحاجة أكثر إلى التوزيع الموسيقي مما أفاد الموسيقى السودانية بشكل عام لتنفتح على عوالم علمية جديدة لم تكن متوافرة في الزمن السابق..
(7)
عن ذلك اهتمام ود الحاوي بالمقدمات الموسيقية كما في أغنية (المصير) وهو يشبه في ذلك تماماً الموسيقار المصري الراحل عبد الوهاب الذي اهتم بمقدمات الأغاني وجعل منها قطعاً موسيقية متكاملة اشتهرت كثيراً بين هواة الموسيقى وبعدها تسابق الملحنون لتقديم أفضل ما عندهم من موسيقى في مقدمات الأغاني، وهي مقدمات غاية في الثراء بل إنها في كثير من الأحيان تفوقت على المقاطع الغنائية من حيث محتواها الميلودي والأوكسترالي بل والتعبيري أيضاً.