عبد الله مسار يكتب : جهاز الأمن والمخابرات مناعة الدولة
تنشأ الدول أجهزة مخابرات مختلفة وتطلق عليها أسماء مختلفة، هدفها الأساسي حماية الدولة وأجهزتها الحاكمة والاقتصادية ومنظوماتها العسكرية والسياسية من الاختراق وحماية الدولة من الاستهداف الداخلي والخارجي والسيطرة على المعلومة مورد ونظام حكم وشعب.
وهذه الأجهزة تأخذ مسميات مختلفة ولكن مهامها واحدة ومحددة ومهمتها الحماية الكاملة للدولة وكذلك تقديم التقارير والمعلومات اللازمة لمُتّخذي القرار. مع التحليلات اللازمة التي تمكن متخذ القرار من عمل منظومات الدولة وأجهزتها.
السودان دولة حول وفيها مهددات كثيرة، لذلك قامت فيها أجهزة مخابرات بمسميات مختلفة. في السودان بدأ بالبوليس السري الذي استهدف الأفراد والناشطين السياسيين وقادة الرأي وحتى الجرائم العادية.
ثم في السبعينات من القرن السابق أنشأ نظام مايو جهاز أمن متخصص وكان الاهتمام السياسي فيه طاغياً، ولكن أيضاً اهتم بجوانب أخرى بما فيها امن الحدود والأمن الاقتصادي وامن الدولة، بل الأمن الشامل وطغى عليه أمن وتأمين النظام ولذلك ارتكبت بعض عناصره تجاوزات على الإنسان وحقوقه بما في ذلك تكميم الحريات والضغط على الإعلام والحريات العامة، ولكن عمل ترياقاً واقياً للدولة من الاختراقات الأخرى وكان بعض اعماله فيها مهنية عالية. مع بعض القصور والتجاوز هنا وهناك، وجاءت الانتفاضة في ١٩٨٥م وبردة فعل عنيفة باعتبار أن الجهاز قد سُيِّس وسيطرت عليه عناصر حزبية ووُجِّه لغير مقصده، في وقت من الأوقات قامت حملة ضخمة وقادها بعض عناصر احزاب وبعض مما دخلت أجهزة المخابرات الأخرى وبعض سفارات أدت الى حل الجهاز في ذلك الوقت وتبعثرت إمكانيات تنظيمية وفكرية وقدرات علمية وعملية وضيعت كل المنظومة الماسكة البلد وضاع وضيع جهاز أمن قوي وحتى ضاعت معه معلومات ضخمة عن البلد وذهبت الى مخابرات دول مناهضة للسودان، وكل ذلك نتيجة ردة الفعل لبعض ممارسات أفراد في النظام.
وجاءت الفترة الديمقراطية وكانت مكشوفة وليس لها حائط صد قوي، بل كانت تغيب عنها أغلب المعلومات لعدم وجود جهاز امن فاعل، ولذلك كانت حلقة المعلومات أضعف الحلقات في الدولة وفي الدولة الديمقراطية.
ثم جاءت الإنقاذ وبدأت في تأسيس جهاز مخابرات من الأمن الداخلي والخارجي وكونت منظومة جهاز الأمن والمخابرات وبدأ الجهاز في الأعوام الاولى للإنقاذ غير مهني وحزبي وباطش ويمثل منظومة سياسية محددة وان كان مخلوطاً بعناصر مُتخصِّصة ومهنية وعمل بقوة لحماية النظام الجديد، ولكن أيضاً حماية البلد والدولة واستمر هكذا ولكن تطور فنياً وعلمياً وعملياً. بعد عام ٢٠٠٤م صار جهازاً ضخماً وضارباً، وخلق علاقات مع اجهزة دول اخرى في سبيل التنسيق والتعاون، وتعدى ذلك الى عمل آليات ارتباط قوية، بل صنع جهاز امن ابتز كثيراً من اجهزة مخابرات دول حوله، وتجاوزت علاقات التنسيقية الحدود وصار يُشار إليه بالبنان، ومر عليه قادة عظام كلٌّ وضع بصمته، وحول الى جهاز دولة للمخابرات رغم ان حماية النظام جُزءٌ من مهامه واهّلت عناصره تأهيلاً كاملاً ودقيقاً وقام بأدوار عظيمة في حماية الأمن الوطني، بل وفر معلومات كثيرة وقوية لصانعي ومُتّخذي القرار في الدولة السودانية.
وجاءت ثورة ديسمبر ٢٠١٨م وتعرّض الجهاز لهجمة شرسة نتيجة مرارات أصابت بعض قيادات أحزاب وناشطين من صُنّاع التغيير وبعضها بتدخل أجهزة مخابرات خارجية. كانت تسعى لتكسير وتفتيت جهاز الأمن السوداني ليسهل لها اختراق الدولة السودانية، وهذه الهجمات قلّصت من دور الجهاز وجعلته عمدة بلا أطيان، خاصةً وأن الثورة صناعها كثرٌ محليين وآخرين سودانيين من وراء البحار. وقطعاً أيدي المخابرات الخارجية عبر سفراء الدول وأقلام مخابراتهم ومالهم كانت موجودة، ولذلك بعد نجاح الثورة كل غنى على ليلاه وأُصيب الجهاز نتيجة هذه التداعيات في مقتل، ولذلك كثر عليه الهول وكسر وقُلمت أظافره وبُعثرت إمكانياته وصُفِّي عاملوه ومنسوبوه، وشُردوا وأُبعد جناحه الضارب (العمليات)، وقلّلوا من مهامه وجعلوه كاتب عرضحالات وسبطت همم منسوبيه حتى آثر بعضهم الابتعاد تلقائياً ولذلك قلت فعاليته.
ولكن بحديث رئيس مجلس السيادة الأخير، أعاد اليه بعض الأمل، ولكن هذا يتطلب عملاً جاداً في ناحيتين، تفعيل قانونه وإعطائه مهاماً كبيرة ليقوم بالدور المطلوب منه في ظل دولة تعيش وسط مُهدِّدات كبيرة ومهلكة، وكذلك جعله مهنياً خارج التنظيمات السياسية حتى يكون جهاز الدولة ولحماية الوطن وليس جهاز حزب ولحماية السلطة الحاكمة، وأيضاً يجب أن لا يقوم جهاز موازٍ كما يتم الآن (جهاز الأمن الداخلي) الذي تُشير المعلومات انه بدأ تكوينه من بعض الاحزاب الحاكمة، ويقال ان منسوبي هذه الأحزاب هي التي تسيطر عليه.
عليه، يجب ان نبقي على الجهاز القائم على أن تُجرى عليه بعض الإصلاحات ومنحه مزيداً من المهام والسلطات. وان نبعده من التسييس والانتماء والأحزاب وأن يكون جهاز أمن وطني مهني مؤهل ومقتدر حتى لا يتعرّض في كل حينٍ لمثل هذه الهزّات، لأن ثبات واستقرار جهاز الأمن فيه ثبات الدولة واستقرار وتمكين للمعلومة.
الدولة التي ليس لها جهاز مخابرات قوي عُرضة للاختراق والعبث بها وبمواردها وشعبها، بل حتى أمنها القومي ويلاحظ الشخص المتابع أن منسوبي السفارات يتحركون مطلوقي اليد والعنان في داخل السودان، بل هنالك سودانيون ظل لهذه السفارات وأبناء برزة لها يقدمون كل شيء دون أن يعرفوا أن ذلك ضد أوطانهم، يجب أن تقيد حركة السلك الدبلوماسي المقيم في السودان بالقوانين التي تُنظِّم أعمالهم وأوراق اعتمادهم.
أعتقد أنّ في الجهاز كفاءات نادرة وإمكانيات مهولة ووطنية صادقة، وفكر عميق ومعرفة شاملة كاملة تؤهله ليقوم بدور حامي الوطن الأمني حصناً وتحصيناً، وهو جهاز مناعة قوي لا تدخل جسمه فيروسات لو أحسنّاً التعامُل معه.
أخيراً نتوقّع قرارات مُفيدة لصالح الجهاز من مجلسي السِّيادة والوزراء تعيد للجهاز دوره في دولة السودان.