عبدالله مسار يكتب: مكارم الأخلاق وعلو كعب الدين
تقدّم شاب للزواج من فتاةٍ وكان شرطه الوحيد للزواج هو الاعتناء بوالدته العجوز.
أخبر تلك الفتاة أنّه لن يطلب منها أكثر من أن ترعى أمّه وقت غيابه، فأمُّه طريحة الفراش مُنذ عشرة أعوام، فبعد وفاة والده لم يَبقَ له سواها من الحياة.
وقال لها فقط هذا شرطي، أمي وأعرف أنكِ لستِ مُكلّفة برعايتها أو خدمتها، ولكن إذا وافقتِ فستعملين ذلك من باب إنسانيتك وطاعة لي.
وكانت أم هذا الشاب تعرّضت لحادث سير مرعب فقدت التحكم في جسمها بالكامل وشُلّت أطرافها. وكان هذا الشاب هو القائم برعايتها، ولكن نظراً لدراسته وعمله، هناك أوقاتٌ يغيب عنها وهي بحاجةٍ إلى أدوية واهتمام.
فكّرت الفتاة كثيراً وتحيّرت أكثر، فهذا كأنه بحاجة إلى خادمة وليس زوجة.
ثم قالت الفتاة، تكلّمت مع والدي الذي خفّف عَمّا يدور منها من تفكير، وقال لها اسمعي ابنتي هذا مُستقبلك ولا أملك الحق في التأثير عليك، ولكن طالما طلبت رأيي فأنا أؤمن جيداً أن صنائع المعروف تقي مصارع السُّوء. شخص كهذا حريص على بر والدته فلن يضيعك معه ولن تظلمين حقاً عنده.
إن أحبك أكرمك، وإن كرهك لن يظلمك، فإذا كنتٍ ستراعي أمه ليس بشكل يرضيه، ولكن تضعيها في مقامِ أمكِ فاقبلي ابنتي، واذا كان الشيطان سيجد بابه إلى قلبكِ فيحملك على ظلمها فقولكِ لا أسلم لك.
تزوّجا فعلاً، وفي أول ليلة لهما أخذ زوجته الى غرفة أمه وكانت الغرفة مُنظّمة ومُرتّبة كأنّها قطعة من الجنة، ألوانها، ترتيبها، وسائل التدفئة فيها مختلفة تماماً عن باقي البيت.
ترك زوجته واقترب من سرير والدته وكانت نائمة، أخذ يهز كتفها برفقٍ قائلاً: ماما لقد أحضرت هديتي إليكِ هذه زوجتي ألا تريدي رؤيتها، فتحت عينيها برفق ونظرت له بابتسامة ودعة، ثم حوّلت نظرها للزوجة وقالت الزوجة لم استطع وصف تلك اللحظة، عيونها مليئة بألمٍ، وثغرها مبتسم بحُزن، وكان وجهها كالقمر في ليلة تمامه هادئاً جداً لامرأة في السبعين من عمرها.
فقالت الأم مبارك عليكِ بنيتي زفافكِ، ادعو الله أن يهدي لكِ صغيري هذا، وأن يرزقك ولداً باراً مثله وألا تكوني ثقيلة عليه مثلي.
ثم ذرفت عيناها دموعاً أشبه بفيضان، سمح له بالجريان
سارع لمسح دموعها بكُم بدلته.
وقال هذا الكلام يغضبني وانتِ تعلمين ذلك، أرجوكي ماما لا تعيدها.
قالت الزوجة، اقتربت منها وقبّلت يدها ورأسها وقلت آمين ماما.
قالت الزوجة، مرت الأيام في هذا المنزل ودهشتي في زوجي تزيد يوماً بعد يوم، كان هو من يُغيِّر لها الحفاض وكان يحكمها في مكانها بفرشاة الاستحمام. كان يبلِّل لها شعرها ويسرحه لها وعندما تألمت من المشط الأخضر إلى مشط غريبٍ كان من الورق المقوي الناعم من أجل فروة رأسها، كان قد رآه في أحد الإعلانات التجارية أحضره لها، سرت جداً بذلك المشط.
كان يضفر لها شعرها في جدلتين صغيرتين كانت تخجل عندما يفعل ذلك وتبتسم بحياءٍ وتقول: لست صغيرة على هذا أيها الولد فلتنهي ذلك، كان يرد عندما يعجب أحدهم بك فستشكريني، عندها تغرق في ضحك عميق.
كنت اراه من خلف ذلك الضحك ينظر اليها كطفل ما زال في السادسة من عمره حقاً كان يحبها جداً.
وقالت الزوجة لا أعرف ماذا يقصد عندما أخبرني بأنه يريدني ان اعتني بها وهو يفعل كل شيء، بل يرى ان وقت خروجه وعمله كان ثقيلاً عليه. ولا يريدها ان تكون وحيدة.
قالت الزوجة، كنت استغرب كيف يجد وقتا لكل ذلك، وخاصة إنني فقط أساعده في تناول وجباتها وآخذ ادويتها، وقالت احببت علاقته بها جداً وكان متعلقاً بأمه وهي أكثر.
كان يستيقظ في الليل على الأقل ثلاث مرات لينقلها من جانبٍ لآخر حتى لا تُصاب بقرح الفراش، وليطمئن عليها، كان في كل مناسبة يحضر لها ملابس جديدة ويشعرها بجو هذه المناسبة بمساعدة التكنولوجيا.
في إحدى المرات، نسي إحضار حفاض لها، وعندما استيقظ ليلاً للاطمئنان عليها، شم رائحة قذارة، فعرف أنها قد أطلقتها على نفسها، كانت تبكي وتقول آسفة حدث ذلك رغماً عني وكان منهمكاً في تنظيفها وهي تبكي وتقول إنت لا تستحق مني ذلك، هذا ليس جزاءً لائقاً، بل أدعو الله أن يُعجِّل بما بقي لي من أيام.
أخبرها قائلاً: افعل ذلك أمي بنفس درجة الرضاء التي كنت تفعلينها بي في صغري، وبكت الزوجة وقالت هذا الرجل فعلاً رزق.
قالت الزوجة أنجبت منه ولداً وتمنّيت أن يكون مثل أبيه في كل شيءٍ وحملته وذهبت به الى جدته، وقلت لها أريده مثل ابنكِ،
فابتسمت وقالت، صغيري هذا رزق لي والرزق بيد الله عزيزتي فادعي الله أن يربيه لكِ.
قالت الزوجة، كانت حياة زوجي كلها بركة وخيراً، لم يتذمّر من أمِّه قط لا أمامي ولا أمام غيري، كان بارّاً بوالدته حتى ظنت الزوجة أنّ هذا البر يكفي لجميع العاقين.
هذا الابن البار بوالدته هو الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي.
هو محمد راتب النابلسي، الداعية السوري المعاصر، له دروس ومُحاضرات في الإعجاز العلمي القرآني وفي التفسير والمنهج العلمي والمعرفة.
واشتهر بسلسلته عن أسماء الله الحسني وعن الشمائل النبوية وهو رئيس هيئة الإعجاز القرآني، وله العديد من المؤلفات، وشارك في العديد من المُؤتمرات العالمية.
وُلد في دمشق سوريا في ٢٦ ديسمبر ١٩٣٨م.
والداه هما عبد الله النابلسي وصفية مارديني.