منذ الاستقلال في عام 1956م السودان تأسس على التراضي السياسي والمجتمعي، لأنّ السودان كان دولة سلطنات ومشيخات ولم تكن فيه الدولة الوطنية والقومية، وكان أقطاب العمل العام فيه زعماء عشائر وقادة تجمعات دينية ولم تنشأ فيه أحزاب حديثة قائمة على البرامج والديمقراطية والبناء الحزبي المؤسسي, ولم يؤسس لدستور وطني دائم، كل البرلمانات كانت تقوم على أساس أنّها برلمانات تأسيسية، بعد الاستقلال قامت جمعية برلمانية تأسيسية وبعد الانتفاضة كذلك، وكل هذه البرلمانات كان منوط بها صناعة دستور.
وعدم قيام الدستور سببه الصراع بين اليمين الإسلامي واليسار العلماني وكانوا يتصارعون حول هوية السودان ودستوره.
اليمين الإسلامي يصر على قيام دستور إسلامي، واليسار الشيوعي والعروبي القومي يصر على دستور علماني.
في الجمعية التأسيسة ١٩٦٧ إلى مايو ١٩٦٩م كانت تعمل لإجازة مشروع الدستور الإسلامي، ولذلك صاحبتها تداعيات كثيرة، منها طرد نواب الحزب الشيوعي، بل قام الشيوعيون وعموم اليسار بانقلاب مايو لقطع الطريق أمام دستور إسلامي.
ثم جاءت حكومة بعد الانتفاضة في١٩٨٥م، وبعد انتخاب الجمعية التأسيسية من الاسم معني أنها جمعية تأسيسية لإقامة الدستور، ولما شعر الإسلاميون أن الاتجاه لإبعادهم بعد مذكرة الجيش وتكوين حكومة من حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي والحزب الشيوعي، قام انقلاب يونيو١٩٨٩م.
إذن الصراع في السودان هو صراع بين اليمين واليسار حول إقامة دولة التأسيس، أي دولة إقامة دستور والصراع بين دستورين علماني وإسلامي.
الآن أعتقد أن د. حمدوك يسعى لإقامة دستور لدولة الناشئة السودانية على أساس قيام دستور علماني دون النظر إلى أن الفترة انتقالية أو نظام منتخب وهو يعمل مع دول الترويكا وخاصة فرنسا، للاستفادة من هذه الفترة حتى لو تستمر إلى عشر سنوات، ولذلك الآن كل أحزاب اليسار تسعى للانفراد بالحكم لتحقق دولة التأسيس وإقامة دستور علماني دون النظر إلى شكل الحكم والدولة أو درجة الحكم انتقالي أو انتخابي ديمقراطي، ولذلك الآن المجموعة الحاكمة لا تقبل أيِّ مشاركة وتسعى لأن تحقق ذلك في فترة الانتقال، بغض النظر عن ظروف البلد والمشاكل والمعوقات التي تعترض الدولة الانتقالية.
أعتقد أن الصراع في السودان بين اليمين واليسار يجب أن يُحسم لصالح المواطن السوداني العادي لا على أساس السوداني صاحب الأيديولوجية، ويجب أن يكون للمواطن أبو فطومة رأيه في أمر الحكم والدولة في السودان.
وعلى الأخ د. حمدوك أن يُركِّز على دولة المواطنة وليست دولة الأيديولوجيّة.