كما قلت في الحلقة الأولى، إنّني تولّيت ولاية نهر النيل في عام 2002م ومكثت فيها ثلاث سنوات كانت أمتع وأميز وأفيد فترة حياتي، وفِي هذه الفترة وقعت أحداثٌ ومواقف ومشاهد مُهمّة بالنسبة لي ومن المواقف الآتي:
استلمت الولاية من الرجل المهذب، المؤدب، الخلوق، المهندس إبراهيم محمود حامد، واستمرّيت حوالى ستة أشهر بحكومة الأخ إبراهيم محمود، وقررت تعديل الحكومة. تشاورت مع الأخ عبد المحمود عثمان منصور نائب رئيس المؤتمر الوطني، وكان الأخ عبد المحمود سنداً وعضداً لي طيلة قيادتي للولاية، بل كان شريكاً لي في إدارة الولاية، وكان رجلاً واعياً وفاهماً وسياسياً وقيادياً نافذاً في حزبه، بل كان ركيزة أساسية لي في إدارة الولاية، وظل مني كهارون من موسى طيلة فترة حكمي في الولاية، ولذلك كُنت أشاوره في كل أمر، وكذلك كنت أشاور الأخ المرحوم عمر المجذوب رئيس المجلس التشريعي من وقتٍ لآخر، وكذلك أشاور الأحزاب المشاركة في الحكومة من غير المؤتمر الوطني، وكان الحزب الاتحادي الديمقراطي (الشريف الهندي) أكبر شركاء الحكومة، ودفع لي بأخ وصديق ألا وهو الأخ محجوب محمد عثمان وكان رجلاً موسوعة، زامل الرجل القامة الوطني الكبير المرحوم الشريف حسين الهندي.
وكانت حكومتي الأولى منسجمة، ذات مهام كبيرة وطموح عالٍ، وأنجزت الكثير، بل تشكيلها لم يكلفني كبير عناء واستمرت هذه الحكومة حوالى عام، ولكن حدث أن أسقط مجلس الولاية بيان أداء وزراء من المؤتمر الوطني، وعندها قرّرت حل الحكومة وإعادة تشكيلها واستشرت الأخ عبد المحمود، ثم ذهبت إلى الرئيس البشير وهو الشخص المنصوص أخذ مُوافقته وفق القانون وعرضت عليه الحكومة ووافق وصادق عليها، ثم مررت على الدكتور نافع علي نافع الذي كان وزير ديوان الحكم الاتحادي، واطلعته على قرار الرئيس ثم ذهبت إلى الولاية، وأعلنت الحكومة الولائية وأحدثت فيها تغييرات كبيرة وتكاد تكون جديدة ثم أدت القسم وباشرت أعمالها. وبعد فترة حضرت الخرطوم وذهبت للاخ المرحوم د. مجذوب الخليفة وكان وزيراً للزراعة وهو رجل قامة ومكنة كبيرة ومحل احترام كثير من سكان نهر النيل، بل كان رجلا خدوما لنا ولأهله، وعندما دخلت عليه سلم عليّ سلاماً بارداً وباهتاً، شعرت أنه زعلان وتركته جالساً خلف تربيرة مكتبه.
ذهبت إلى موقع الكراسي في بهو المكتب وجلست وضربت الجرس وجاء المراسلة وأخرجت مبلغاً من المال من جيبي، قلت المراسلة أمش جيب لي فطور، وهنا انتبه الدكتور مجذوب وقال لي دا شنو؟ قلت له طلبت لي فطور بقروشي في مكتب حكومة السودان، قال للمراسلة رجع القروش، قلت له عليّ بالطلاق ما يرجِّع القروش، ويجيب لي فطور بقروشي، سكت د. مجذوب وذهب المراسلة وأتى بالفطور، وجاء د. مجذوب وجلس بجانبي وفطرت، وأثناء الفطور قال لي: تحل الحكومة وما تكلِّمنا، وتشكِّل الحكومة وما تكلِّمنا.
قلت له والله يا دكتور أنا لم أجد في القانون فقرة تقول إنّه في حال حل وتعيين حكومة ولاية نهر النيل يجب أن يُشاور الدكتور مجذوب، وعليه حال أنك تطلب مشورتك في ذلك، عليك أن تذهب إلى جهة الاختصاص وتورد نصاً يقول يشاور د. مجذوب في حل وتعيين حكومة ولاية نهر النيل.
وقلت له يا دكتور “أنا والي مالي قاشه وعارف بعمل شنو وضهره مليان ومسنود، وأعلم ماذا افعل.. شكراً.. وخرجت”.. حاول الأخ د. مجذوب أن يعتذر لي ولكن غادرت المكتب وتألّم جداً الدكتور مجذوب، واثّر ذلك الموقف عليه جداً لأنه كان رجلاً قائداً وزعيماً، لحق بي في مكان نزلي واعتذر لي وصار من أعز إخواني وأصدقائي ومن أكثر الناس الذين ساعدوني ووقفوا معي في ولاية نهر النيل وفِي مسيرتي في العمل السياسي، بل ساندني في مواقفي وصراعاتي السياسية حتى انتصرت في أغلبها.
ألا رحم الله الدكتور مجذوب، كان رجلاً شهماً، كريماً، سمحاً، واسع العلاقات، وصاحب مبادرات وحلول، ومكنة كبيرة، عاجله الموت، نسأل الله تعالى له الرحمة والمغفرة.