بهاء الدين قمرالدين يكتب.. الألم والعذاب في شعر جماع!
كان الشاعر الكبير والمبدع الضخم الراحل إدريس محمد جماع، شهاباً وامضاً، ونجماً ساطعاً، وشامة فارقة في خارطة الشعر السوداني، وقامة سامقة في المشهد الثقافي والإبداعي في بلادنا, اختط له (نهراً ونجهاً شعرياً) فريداً ومائزاً، وسلك سماءً عالياً، بعيداً عن مسارات الشعراء السابقين أو المُجايلين أو الماصرين له!
وحياة جماع كانت مشحونة بالألم والمعاناة والعذابات التي تتكاثر وتتناسل بين كل فينة وأخرى؛ وانعكس ذلك الألم جلياً في مرآة شعره الموسوم بوشمه ونقشه!
بل إن شعر جماع هو صدى للألم وصوت للعذاب, تُجسِّد تلك المواجع والخطوب التي ألمّت به وسكنت فؤاده المرهف؛ وتمثلها قصيدته الموسومة بـ(صوت من وراء القضبان)؛ وهي خريدة ودرة من جواهر ديوانه الوسيم (لحظات باقية), والتي لخّص فيها رحلته مع الألم والعذاب، ونعى فيها نفسه قبل سنوات طويلة من وفاته، فهو يستهل قصيدته، واصفاً الألم المريع الذي طوى عليه صدره؛ ولما ضاق ذرعاً باح به وأعلنه وهتك سره؛ بيد أن كل ذلك لم يجد فتيلاً، فلا البوح نفع ولا الكتمان أجدى، حيث يقول:
على الخطب المريع طويت صدري
وبحت فلم يفد صمتي وذكرى!
وصوته يذوب في لجج الألم كمثل الذي يسكب قطرة ماء في خضم البحر، ودجى ليله وأيامه الحزينة فصول يؤلف نظمها مأساة عمره, ويشاهد فيها مصرعه أحياناً, ويتخيل فيها أشباح قبره؛ وهو سجين في الكون الفسيح ورهينٌ في محبسه يلوح له فيه الردى، حيث يقول:
وفي لجج الأثير يذوب صوتي
كساكب قطرة في لج بحر
دجى ليلي وأيامي فصول
يؤلف نظمها مأساة عمري
أشاهد مصرعي حيناً وحيناً
تخايلني بها أشباح قبري
وفي الكون الفسيح رهين سجن
يلح به الردى في كل شبر!
أما أحلام الخلاص التي تشع آنا، فإن الردى يطويها سريعاً، أما حياته فهي لا حياة فيها بل هي سعير وحطام عمر، ورغم كل ذلك العذاب إلا أنه لا يستطيع أن يبوح ويجهر بتلك الخطوب، لأنه لو صدع بها لضاقت منها صور البيان وشعره على سعته:
وأحلام الخلاص تشع آنا
ويطويها الردى في كل ستر
خطوب لو جهرت بها لضاقت
بها صور البيان وضاق شعري!
وهو عندما باح ببعضها أضاف ألماً الى آلام الآخرين ومواجعهم؛ حتى إنه ليكاد يسمع بقلبه المُرهف الأجيال القادمة التي تأتي بعده وهي حانقة عليه تردد هول أمره:
جهرت ببعضها فأضاف بشي
بها ألما إلى آلام غيري
كأني أسمع الأجيال بعدي
وفي حنق تردد هول أري!
ويصوِّر لنا جماع الآلام التي تتناوشه تصويراً يفطر القلب ويمزق الفؤاد؛ فها هو يتقلب في فراشه على عذاب يهز أساه ويُوجع كل حر أصيل مرهف يحس بمعاناة الآخرين، حتى إن العيون تطالعه ولا تراه لأن شخصه غيّرته سنين الأسر الذاتي النفسي، وسجن الدواخل ورهن محابس الفؤاد؛ والقيد يصم صليله ويسد سمعه ويزعجه, وفي الأغلال مصفد وجدانه وفكره، وفقد الأمان في حياته وفني لجلل خطبه الكبير، بل وتسلب نومه وتسهده يد من حيث يدري ولا يدري:
وأين الأمن مني من حياتي
فقد فنيت وما خطبي بسر
وتسلبني الكرى الآلماما
يد من حيث لا أدري وأدري!
في جنباته إنسان وروح يسري فيها حب البشرية جمعاء، ورغم كل عذاباته والنيران التي تحرقه؛ الا ان جماعاً يسأل الله أن يقي بلاده ذلك الشر الذي سرت نيرانه في أحشائه لحصاد عمره:
وفي جنبي إنسان وروح
وحب الناس في جنبي يسري
وقاك الله شراً يا بلادي
سرت نيراته لحصاد عمري!
ويحيا في ضلوع الشاعر هوى ضجت به حفقات صدره وأيامه تتساقط من عمره كأوراق الأشجار الذابلة التي تذروها الرياح؛ وتطامن دوحها وهوى وأجفل وهرب منه نهر الحياة. وهدم مؤنس الأعشاش وفقدت الطيور أهازيجها، وكلها ذبول وجفاف وصحراء, ولكن رغم ذلك تغالب محنته آمال براقة وتحيا في دمه عزمات الحر وإرادة البقاء:
ينازعني الحياة في ضلوعي
هوى ضجت به خفقات صدري
وأيامي تساقط من حياتي
كأوراق ذوت والريح تذري
تطامن دوحها وهوى مكباً
وأجفل عنه تيار بنهر
وهدم مؤنس الأعشاش فيه
فلم تهزج له أنغام طير
ولست ترى حواليه رواء
ولكن وحشة وذبول زهر
يغالب محنتي أمل مشع
وتحيا في دمي عزمات حر!
وفي هذه القصيدة الباكية الحزينة نعى شاعرنا الكبير الراحل جماع نفسه ؛ بعد ان اصلت فؤاده الاحن وادمت روحه المحن , وهي تلخص كل حياته رحلة طويلة وشاقة ودامية ومضنية؛ تكتب بين قوسين كبيرين هما (الألم والعذاب) ، رحمك الله يا جماع فقد تألمت وقاسيت كثيراً!