دعونا نتطرق لهذا الموضوع بشكل اقتصادي بحت.
أولاً: دعونا نرد على تساؤلات لماذا رفع الدعم؟، وما الذي أوصلنا إلى هذا الحال والفقر المدقع؟
منذ مجيء حكومة الإنقاذ في 30 يونيو 1989م الذي جعل الموازنة العامة موجهة نحو قواته لحفظ النظام دون الرعاية والاهتمام بالمواطنين وذوى الدخل المحدود، وصل هذا الحال إلى أن يبيح ممتلكات الدولة كما أدى هذا الحال إلى عدم التزام البنوك بمستحقات المواطنين، وكانت الدولة آيلة للسقوط (بنيات تحتية منهارة وخدمات ضعيفة).
جاءت حكومة الفترة الانتقالية وبدأت في رصد الخلل في الاقتصاد الوطني وكانت النتيجة الفجوة الكبيرة في الميزان التجاري قُدرت بثمانية مليارات دولار كي ينتعش الاقتصاد. السؤال من أين لحكومة الفترة الانتقالية أن تأتي بهذا المبلغ الضخم؟ وكانت الخيارات أمام الحكومة عبر ثلاثة محاور.
المحور الأول: التمويل الداخلي (القومة للسودان)
تم الإعلان له وتم تحديد أهدافه (الإمداد الكهربائي والبنى التحتية ورفع مستوى الخدمات)، ولكن لم تحقق المرجو منها حيث كانت مجموع الإيداعات 156 مليون جنيه أي مليار وهذا المبلغ لا يلبي نصف احتياجات الدولة التي ذكرت.
المحور الثاني: دول الخليج العربي (دول الكُفلاء)
كان للسودان خياران إما أن ينتقص من السيادة الوطنية أو يخضع للمؤامرات والدسائس لدول لا تحب الخير للسودان وكلاهما مُر.
المحور الثالث: اللجوء لمؤسسات التمويل الدولي
لم تصبح هناك خيارات أخرى للحكومة في الفترة الانتقالية غير اللجوء إلى هذه المؤسسة وشروطها القاسية جداً، حيث أنني ذكرت هذه الوصفات في ورقة عنونتها (بمآلات الدول لسياسات البنك الدولي) وذكرنا أن البنك لا بد أن يضمن المبالغ التي سلمها للسودان ألا تصرف في أشياء استهلاكية (دعم الوقود والخبز) وتحرير سعر الصرف وزيادة الضرائب ورفع الدعم كلياً وغيره.
مما اضطر الحكومة للالتزام بهذه الشروط القاسية جداً والمجحفة في حق المواطنين وبدأ العمل بشكل فعلي ثم كانت النتيجة رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب مروراً بمحاولات إعفاء الديون والاستفادة من الدول المثقلة بالديون (HIPC) ثم الحصول على قروض توجه للمحاور المذكورة دون نظر الحكومة لبسطاء الناس وذوي الدخل المحدود وأصحاب المهن الهامشية خصوصاً برامج الحكومة المتعثرة والخجولة لتحقيق أثر إصلاح اقتصادي على المواطنين (سلعتي + ثمرات) والانتشار المحدود جداً إلى تاريخ هذا المقال، ولو قُدر لحكومة الفترة الانتقالية النجاح في هذا البرنامج هل يعني نهاية النفق، الإجابة لا حتى الدول التي نجحت في سياسات الإصلاح الاقتصادي عبر البنك الدولي في زيادة الدخل القومي وتعزيز سعر صرف العملة، إلا أنها عمقت الفروقات بين الأغنياء والفقراء بصورة أكبر، وقادت إلى مشاكل أمنية واجتماعية كثيرة جداً على سبيل المثال دولة مثل البرازيل والأرجنتين وجمهورية مصر العربية تسير على ذات الحال. من المعلوم أنه كلما زادت الفروقات انعكس أثر هذا على الوضع الاجتماعي والأمني.
حتى لو فكرت حكومة الفترة الانتقالية في جلب الاستثمار عبر البنك الدولي للسودان لا أظن أنها ستحمى الأيادي العاملة والأجور المتدنية لأنها لا تمتلك نقابات قادرة على الضغط على الحكومة لحماية العامل الوطني، كما لا تحمل الضغط على رب العمل على أن يدفع رواتب مجزية، لأنها جربت أو طبقت على الأنظمة الديمقراطية أما الدول التي توجد بها أنظمة غير ديمقراطية فيختلف الحال للأسباب التالية:
عدم قانونية حكومة الفترة الانتقالية لتنفيذ هذه السياسات (القرار يحتاج إلى حكومة منتخبة).
عدم تمثيل النقابات في صنع القرار السياسي.
عدم حرية تنظيم النقابات.
وأخيراً هذه التجربة لم تحقق نجاحات تذكر، كما أود أن أقول لحكومة الفترة الانتقالية إن تنفيذ روشتة البنك الدولي وإرضاء المجتمع الدولي لا ينبغي أن يكون على كاهل المواطن السوداني خصوصاً أن الاقتصاد علم البدائل كان من المفترض أن تبحث الدولة عن بدائل لا سيما أن السودان مليء بالموارد الضخمة جداً لم تستغل حتى الآن لا الحكومات السابقة ولا الحالية حاولت في استغلالها، في تقديري أن الذهب ينتج سنوياً 11 مليار دولار إضافة إلى الصمغ العربي والقطن كانت كفيلة بأن ترفد الخزينة العامة بمليارات الدولارات، ولو فرضت السيطرة على الفساد وفك الاحتكارات وإنهاء صادر الخام كل هذه كانت كفيلة بأن تجنب البلاد كل هذه المحاور.
مع تحياتي