صديق البادي يكتب.. مبادرة دكتور حمدوك وكلمات لا تنقصها الصراحة 2-2
في الحلقة السابقة ذكرت أن المبادرات من أجل المصالحات والإصلاحات يمكن أن يقدمها وطنيون حادبون على المصلحة العامة أو مراقبون مخلصون يدعون ويسعون لجمع الصف الوطني ورتق وتقوية النسيج الاجماعي، ضربت مثلا بعدد من النداءات والمناشدات أو المبادرات التي قدمها عدد من رموز المجتمع المحترمين.
أما بالنسبة للسيد رئيس الوزراء دكتور عبد الله حمدوك، فهو ليس مراقباً وليس وسيطاً بين أطراف بينها تجاذبات في السلطة ومنافسات وصراعات معلنة أو خفية، ولكنه شريك في السلطة وطرف من الأطراف التي بينها منافسات ومناكفات وشد وجذب، وظل سيادته رئيساً للوزراء وعلى رأس الجهاز التنفيذي لمدة عام وتسعة أشهر والمبادرة التي كتبها وقدمها وربما يكون قد شاركه في كتابتها آخرون هي عبارة عن كشف وعرض للحال في إطار نظري، ولكن المطلوب عملياً وليس نظرياً تقديم مراجعات والقيام بعملية نقد ذاتي لأداء حكومته في كافة القطاعات والمجالات التنفيذية لا سيما في المجال الاقتصادي والأحوال المعيشية والخدمية للمواطنين، وقد بلغت حداً بعيداً من السوء والرداءة، وبلغت الأزمات قمتها وكادت تؤدي لانفجار شعبي تلقائي كالانفجار الشعبي التلقائي العارم الذي أسقط النظام السابق وطوى صفحته ولكن المبادرة التي قدمها دكتور حمدوك وبعدها عقدت اجتماعات مجلس الوزارء برئاسته في معسكر مقفول بسوبا لمدة ثلاثة أيام انتهت بصدور قرارات ساهم إعلانها مقروناً بتلك المبادرة في تخفيف حدة الاحتقان وتقليل دواعي الانفجار، ولكن إذا لم تحدث معالجات فعلية على الأرض يلمسها المواطنون في حياتهم اليومية فإنها ستصبح عملية تخدير يزول أثرها بانتهاء فترة مفعول المخدر، ودعونا نتفاءل ونأمل خيراُ.. ونلتمس من السيد رئيس الوزراء وحكومته الوقوف على الحقائق والأرقام المجردة بلا مساحيق وطلاء زائف وتقارير خادعة كاذبة..
الاهتمام بقضايا وهموم المواطنين يقتضي الوقوف على نبض الجماهير ومعايشة الواقع ميدانياً، ومن ضمن ذلك النزول للأسواق والوقوف على كل ما فيها من همجية وفوضى ضاربة أطنابها مع غياب تام للدولة وهبيتها وإحساس بعدم وجود حكومة، ولذلك ارتفعت الأسعار ارتفاعاً جنونياً إذ لا يوجد رقيب أو حسيب.
وكان الرئيس السابق يغضب ويثور عندما يسمع أو يقرأ حديثاً عن الفساد الذي استشرى، ولكن في أخريات عهده عندما ضاق عليه الخناق وكثرت توجساته وهواجسه وعدم ثقته في كثير من الذين كانوا حوله اعترف بوجود الفساد الذي كان يكابر وينفيه وأخذ يتحدث عن ما أطلق عليهم وصف القطط السمان وسعى لتصفية حساباته بطريقة انتقائية مع عدد منهم كان يعتقد أنهم يميلون لآخرين غيره داخل النظام الذي كان يترنح، ولكنه لم يفلح في محاربة القطط السمان التي تمددت ولا زالت تتمدد، ولكن التماسيح الصغيرة المنتشرة الآن تمثل قاعدة عريضة ولا يقل خطرها عن خطر القطط السمان والتماسيح العشائرية الكبيرة بل أن خطرها أكبر لأنها تتعامل مباشرة مع القواعد العريضة من المشترين والمستهلكين، ولا بد أن تتدخل الدولة لحسم هذه الفوضى والهمجية.
وأعلن السيد وزير التجارة مشكوراً بأنه وأركان وزارته سيقودون حملة واسعة لوضع حد لهذه الفوضى والهمجية وتنظيم الأسواق وتحديد الأسعار والتوجيه بوضع قوائم بأسعار السلع في مكان بارز مع ضرورة قيام محاكم أسعار ناجزة، كما كانت في الماضي. والضرورة تقتضى أن تعيد الحكومة ووزارة التجارة توزيع المواد التموينية الضرورية للمواطينين بالبطاقات عبر لجان الخدمات بالقرى والأحياء بالمدن بأسعار معقولة وتقديمها من المنتج للمستهلك بلا وسطاء مع مراعاة مصلحة الطرفين. ويقتضي الواجب الوطني الملح أيضًا إعادة تكوين الجمعيات التعاونية في كافة القرى والأحياء بالمدن وأماكن العمل وتوفير الضرويات بأسعار مناسبة وفي إعادة التموين والتعاونيات وإيقاف سيطرة السوق الأسود والقضاء على الجشع والأنانية وفوضى وهمجية الأسواق. وبكل أسف أوقف في العهد السابق توزيع المواد التموينية عبر البطاقات وحوربت الجمعيات التعاونية للقضاء عليها لتحل محلها شركات وجمعيات، وأماكن بيع ما يسمي بالأمن الغذائي الذي أضر بالمواطنين ولم يستفيدوا منه شيئاً وكان الغرض دعم أفرادهم الموالين العاملين في مجالات التجارة والسلع الضرورية وغير الضرورية ودعم تنظيمهم مالياً على حساب المواطنين المغلوبين على أمرهم.
والسودان بأراضيه الزراعية الشاسعة الواسعة الخصبة ومياهه المتوفرة متعددة المصادر ومناخاته المتباينة التي تؤدي لتركيبة محصولية متنوعة وثرة وبثرواته الحيوانية والسمكية الهائلة وبموارده المتوفره للصناعات التحويلية، يمكن إذا توفر التخطيط السليم الذي يتبعه التنفيذ والإرادة القوية وحسن الإدارة والهمة العالية أن يطبق فعلاً لا قولاً شعار فلنأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع ويمكن أن يكتفي ذاتياً في كافة الضرويات، ويصبح سلة غذاء له ولمن حوله من دول المنطقة، ولكنه بكل أسف يعاني ويضطر لسد النقص بانتظار المساعدات والهبات من الخارج والاستيراد رغم شح موارده في العملات الحرة.
والسودان بلد شاسع واسع وعدد سكانه في حدود أربعين ميلون نسمة تقربياً ومع ذلك يشهد معاناة في الضرويات من مأكل ومشرب وتوجد دول أخرى لا تملك مثل الموارد التي يملكها السودان ومع ذلك فإن أوضاعها مستقرة ولا تعاني في الضرويات ولا في غيرها وعدد سكان مصر مثلاً أكثر من ضعف عدد سكان السودان ولكنهم لا يعانون في الحصول على الخبز وغيره كما يحدث هنا. والصين فاق تعداد سكانها مليار نسمة ويجدون كفايتهم ولا يعانون في الحصول على الطعام وتوفيره لهذه الأعداد الضخمة وينطبق هذا على دول عديدة ذات كثافة سكانية عالية مثل الهند واندونيسيا وماليزيا و…الخ)، وفي أمريكا وأوربا ودول الغرب والشرق لا يشكل الحصول على الغذاء والطعام بالنسبة لهم هاجساً وهو متوفر وأفريقيا يعيش جل سكانها في معظم دولهم على منتجاتهم ومواردهم في حدود إمكانياتهم ويمدون أرجلهم قدر لحافهم ولا يتعدى استهلاكهم قدراتهم.. وهنا تعاني الخزينة العامة من تهرب عدد لا يستهان به من المصدرين وعدم ايداعهم بالعملات الحرة نصيب الحكومة من عائدات ما يصدرونه للخزينة العامة والآفة الكبرى في تهريب الذهب بكميات كبيرة، وفي هذا تخريب للاقتصاد ويتم بكل أسف وبلا وازع من ضمير وأخلاق ودين تهريب المواد البترولية والتموينية والدواء للخارج سعياً وراء الثراء الحرام والقذر وسرقة حقوق اليتامى والأيامى والفقراء والمساكين والمسنين والعجزة. وجاء في الأخبار أن كسلا علي سبيل المثال تشهد يومياً تحرك عشرات اللواري والشاحنات المحملة بالمواد التموينية والأدوية وغيرها وتهريبها لدولة مجاورة ولا تسمح تلك الدولة بإدخال أي شيء منها للسودان، وينطبق هذا على دول مجاورة أخرى.
وثمة ملاحظة تشير لأن بعض القوى الأجنبية وبعض الدول الكبرى تسعى لفرض وصايتها وهيمنتها وتقديم توجيهاتها وإملاءاتها علناً وعلى الملأ وليس سراً، ومن الدلائل على ذلك أن مسؤولاً كبيراً في الإدارة الأمريكية أبدى ملاحظاته على كيفية تسيير حكومة السودان لشؤونها المالية والاقتصادية وأعلن تحفظاته واعتراضاته لأن بعض الشركات والأجهزة وسماها باسمها لا تخضع في إيراداتها ومنصرفاتها وحساباتها لوزارة المالية ولا تعمل تحت مظلتها، وفي هذا التصريح تدخل سافر في مسألة داخلية بحتة وفيه خبث وسعي مبطن لدق اسفين بين بعض مكونات السلطة.
وقبل فترة قصيرة أعلنت الحكومة رفع الدعم عن المحروقات وارتفعت أسعار البنزين والجازولين وتضاعفت على اثر ذلك تعريفة المواصلات وهذا شأن داخلي والتداول حوله يخص السودانيين وحدهم ولكن ورد خبر تناقلته عدد من وسائل الإعلام مفاده أن السيد وزير المالية والتخطيط الاقتصادي التقى في الخرطوم بمسؤول امريكي وقدم له تنويراً عن ما تم تنفيذه وفي نفس اليوم قدم تنويراً مماثلاً لمسؤول آخر من إحدى الدول الأوربية، وهؤلاء الموظفون الأجانب ليسوا أوصياء على حكومة السودان ووزارة المالية ليتم تنويرهم وإحاطتهم علماً بقرار يهم السودانيين وحدهم.
وفي هذه الأيام نشر خبر مفرح هو إعلان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وصول السودان (لنقطة القرار) في مسيرة إعفاء الديون تبعاً لمبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون (هيبك) وأصبح الدولة رقم 38 ويبقى بعد ذلك العمل واتباع الشروط اللازمة للوصول (لنقطة الإنجاز) ولم تعلن مصفوفة تحدد متى يبدأ الدخول في التنفيذ ومقدار الديون التي ستعفى وتحديد أرقامها بالضبط، ولعل الانتقال من (نقطة القرار) حتى الوصول لـ(نقطة الانجاز) سيأخذ زمناً ولا أحد يدري مقداره ولا يمكن التعويل عليه لينفذ فورياً في الوقت الراهن، ويظل باب الأمل مفتوحاً.
وإذا عدنا لمبادرة دكتور حمدوك في بعض بنودها الأخرى فإن سيادته ظل كمن يسعى لإرضاء ضرتين لدودتين فهو يحاول إرضاء قحت من جهة وإرضاء الجبهة الثورية والحركات المسلحة من جهة أخرى، وهو أول من وصف تلك الحركات بأنها حركات كفاح مسلح، وقبل بدء المفاوضات في جوبا كان يكثر الحديث عن ضرورة إعادة هيكلة القوات المسلحة ومن الواضح أنه كان يحس بالضيق من الحاضنة قحت التي كانت تسعى لفرض وصايتها عليه وعلى حكومته، ولعله كان يتعامل معها ولسان حاله يقول .(ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بد).. ويردد أيضاً (مكره أخاك لا بطل)، وهو يسعى جاهداً لقيام المجلس التشريعي الانتقالي بلجانه المتخصصة وبعد تكوينه يصبح وجود الحاضنات..(قحت والثورية ومجلس شركاء السلطة) لا داعي لهم وتنتهي مهمتهم، وهذا يساعده في الشفاء من الصداع الذي تسببه له ولغيره صراعاتهم.. والسلام والحركات المسلحة تحتاج لوقفة منفصلة.