العرب أمة جبلت على الأدب، لأن لغتهم لغة واسعة ورصينة، وفيها من البدائل والمحسنات الكثير، فهي لغة ثرة وواسعة وعميقة، ولها من المعاني الكثير، وتحمل من الإبداع والأناقة والفخامة الكثير، لأنها لغة القرآن الكريم والقرآن معجزة وإعجاز ونزل على العرب، لأنهم كانوا فحول حديث. والعرب درجوا التفنن في الأدب، وكانوا ينشئون أبناءهم عليه، ويسقونهم له لبناً وفطنة في الحضر والبادية.
ومن فنون أدبهم، اختيار اللفظ المناسب، حتى قالوا لكل مقام مقال، ما يصلح في موضع قد لا يصلح في آخر.
فيقال للمريض (معافى)، ويقال للأعمى (بصير)، وللأعور كريم عين.
وكان الخلفاء والحكام ووزراؤهم ومستشاروهم أكثر اطلاعاً ودقّةً في استعمال المعاني والكلمات.
كان هارون الرشيد رأى في بيته ذات مرة حزمة من الخيزران، فسأل الوزير الفضل بن الربيع، ما هذه؟ فأجابه الوزير الفضل، هي عروق الرماح يا أمير المؤمنين، ولَم يقل له إنّها الخيزران، لأن أم هارون الرشيد كان اسمها الخيزران. فالوزير يعرف مَن يخاطب، ولذلك تحلى بالأدب في الإجابة.
أحد الملوك سأل ابنه من باب الاختبار، ما جمع مسواك؟
فأجابه ابنه بأدب رفيع هي (ضد محاسنك يا مولاي) فلم يقل الولد لأبيه (مساويك)، لأن الأدب هذّب لسانه وحلّى وجمّل طباعه وأمكنه من ناصية اللغة.
خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات مرة متفقداً المدينة ليلاً واقفاً على أحوال الرعية، فرأى ناراً موقدة، فوقف وقال يا أهل الضوء ولَم يقل يا أهل النار.
سُئل سيدنا العباس رضي الله عنه من بعض الصحابة
أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب العباس رضي الله عنه قائلاً: (هو أكبر مني وأنا ولدت قبله)، انظر إلى الذوق وجمال الأدب في حضرة مقام الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقل سيدنا العباس أنا أكبر منه عُمراً لأن سيدنا رسول الله أكبر مقاماً ومنزلةً.
اختيار الألفاظ وحُسن التخاطب، قيمة ضاعت للأسف في مجتمعاتنا، وأصبح البعض يبرر ذلك لنفسه ببعض الكلام مثل أنا صريح وأنا شفاف وأنا أتكلم بطبيعتي وسجيتي، أو أنّه بذلك يبتعد عن النفاق والدهنسة وغير ذلك.
والحقيقة أن هنالك فرقاً كبيراً جداً بين النفاق ومراعاة مشاعر الآخرين، وبين الصراحة والوقاحة.
يجب أن نعي جيداً أن بين كسر القلوب وكسبها خيطاً رفيعاً اسمه الأسلوب، ويجب أن نعرف أن اختيار اللفظ الجميل من ذوق وأدب المُخاطب.
قيل قديماً الكلمة الطيبة بخور الباطن
واللسان دبه يحسن استعمالها راكبها.
وجمال الحديث من جمال المتحدث، ولغة الضاد ملئ بدرر الحديث.
أيها الناس، أحسنوا ولطِّفوا خطابكم تكسبوا عقول وقلوب من تخاطبون، إنه الذوق والأدب.