النذير إبراهيم العاقب يكتب.. النيل الأزرق.. مقومات التنمية الشاملة
أصدر رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك الأسبوع الماضي قرارًا قضى بتعيين الفريق أحمد العمدة بادي حاكماً لإقليم النيل الأزرق الذي شهد تدهورًا مريعاً في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية خلال الستة أشهر الماضية والتي أعقبت وفاة الوالي السابق عبد الرحمن نور الدائم التوم، نسأل الله له الرحمة والمغفرة، وذلك ما تبين في الفراغ السلطوي الحاد بالولاية، بجانب الفوضى اللامحدودة في كافة مناحي الحياة العامة بالولاية، والمتمثلة في الانفلات الأمني الحاد في كل أنحاء الولاية، الأمر الذي استدعى أهمية تلافي هذه المعضلة بأعجل ما يكون لأجل إخراج النيل الأزرق من الوهدة التي أدخل إليها عنوة واقتداراً.
ولعل الواقع المعاش الآن في النيل الأزرق يتطلب بذل الكثير جداً من الجهد ومن قبل كافة مكونات الإقليم بدءاً من حاكم الإقليم الجديد والأحزاب السياسية والإدارة الأهلية وقيادات المجتمع المدني للعمل الجاد والتكاتف والتعاون ونبذ كل ما يفضي للفرقة والشتات، لجهة ترسيخ مبدأ التنمية الشاملة في الإقليم، والشروع الفوري في إنزال برامج التنمية السياسية وذلك بخلق الظروف والأجواء الملائمة للحياة الديمقراطية من خلال التركيز على مقومات المشاركة السياسية التي تعد أهم مظهر من مظاهر الديمقراطية، من خلال خلق درجة عالية من الوعي السياسي بالقضاء على الأمية والتخلف ورفع سقف الحرية لدى وسائل الإعلام، وتفعيل التنظيمات والأحزاب السياسية وجماعات المصالح والضغط، وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني وبناء المؤسسات السياسية للقوى المشاركة في العملية السياسية، على أن تتعرف السلطة على آراء ورغبات الجماهير وتوجهاتهم، مع ضرورة تطبيق مبدأ التعددية السياسية المستصحب لاختلاف الرأي والأفكار والتوجهات وفي المبادئ الأيديولوجية، والمصالح الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يوجب أهمية وجود الأحزاب ذات البرامج المختلفة للمشاركة في عملية التداول السلمي للسلطة، التي تعد من أبرز آليات الديمقراطية التداول السلمي للسلطة، فضلاً عن حماية واحترام حقوق الإنسان، والبعد الكامل عن النزعات العنصرية وتأجيجها وسط مكونات الإقليم القبلية، والتي تعد من أكبر معوقات التنمية السياسية،
وتعني بالطبع انتماء الفرد للقبيلة وللجماعات العرقية، وليس للدولة أو الحكومة المركزية، مما يؤدي إلى غياب فكرة المواطنة وافتقاد فكرة الشعب الواحد والمصير الواحد والهوية الواحدة، وهذا يستدعي شروع الحكومة الجديدة في النيل الأزرق في العمل الجاد لمحاربة ارتفاع نسب الأمية المعرفية، وتفشي العنصرية بشكل مريع، وكذلك وضع السياسات الفاعلة للقضاء على الفقر وتدني مستوى الحياة الاقتصادية، وسوء توزيع الثروة وتركزها في يد طبقات محددة، وهو ما أسهم بشكل كبير في عزوف الطبقات الدنيا عن المشاركة السياسية.
ولعل من أهم ركائز إصلاح الإعوجاج الحادث الآن في النيل الأزرق يتمثل في التواجد الفعال للسلطة والذي يتعلق بمدى قدرة بسط الحكومة لسلطة قوتها وسريان كافة القوانين على جميع مكوناتها، ومدى تحقيق الانضباط والاستقرار، وذلك سواء كان برضى المحكومين أو عدم رضاهم، إذ أن بسط الحكومة سيطرتها يؤدي إلى الاستقرار السياسي، وأن كثيرًا من دول العالم الثالث تعاني من عدم قدرتها على بسط سلطتها ونفوذها، إما لأسباب جغرافية كاتساع حدود الدولة أو وجود العرقيات المتعددة والأقليات، فضلاً عن أهمية التوزيع العادل للثروة، والذي يتعلق بمدى قدرة الحكومة على توزيع الموارد والخدمات على كافة أرجاء الإقليم، لاسيما وأن كل المحليات تعاني من سوء توزيع الثروة وندرة الموارد، إذ تتمتع أقلية من المجتمع بالامتيازات، بينما يعاني الأكثرية من الحرمان والفقر والبطالة، مما يؤدي إلى صراع طبقي بين أبناء الإقليم، وجنوح الأكثرية المعدمة إلى انتزاع السلطة من أجل القضاء على هذا التمايز والتفاوت، حيث أن سوء التوزيع من شأنه أن يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي وبالتالي حدوث الاضطرابات وتعطل البنى التحتية بكافة جوانبها.
زد على كل ما سبق الضرورة القصوى لجهة تحقيق الاستقرار السياسي، إن استقرار الإقليم والنظام السياسي فيه، عاملان مهمان ورئيسان لحدوث التنمية السياسية وغيرها من القطاعات، إذ أن الإقليم ذو التجانس العرقي والديني تتشكل فيه الوحدة الوطنية على عكس الدول الكبيرة ذات العرقيات والأديان المتعددة، ولاشك أن عدم المساواة بين هذه الجماعات يؤدي إلى اشتعال الصراعات والحروب الأهلية، وبالتالي عدم الاستقرار السياسي.
وحقاً نريد لمؤسسات إقليم النيل الأزرق خلال المرحلة القادمة، وفي لأجل ترسيخ مبادئ الحكم الذاتي أن تعبر عن استقرار النظام السياسي فيه، بعكس الكيان العضوي والوظيفي المرتبط بأيدولوجية المجتمع، وهذه المؤسسات التي تقوم بالوظيفة السياسية في مؤسستي التشريع والتنفيذ، وبالتالي فإن استقرار النظام يلزمه استقرار المؤسسات، حيث ظل النيل الأزرق طوال الفترات الماضية يعاني بشدة من عدم تفاعل القوى السياسية والمكونات القبلية فيها من تداول السلطة بشكل ديمقراطي وسلمي، إذ يعد الاختلاف السياسي الحاد فيه السبيل الوحيد للسلطة، ولذلك لا بد عن تحييد المكونات السياسية بالإقليم وحصرها في الإطار الأمني وحماية الإقليم وإدارة الحروب.
الأمر الذي يستدعي تنظيم السلطة بالاحتكام لنظام قانوني، المتمثل في الدستور الذي يرسم طريقة الحكم، وينظم علاقات الحكم بالمحكومين، وينظم مبدأ فصل السلطات.
ولعله متى ما تحقق ما ذكر أعلاه واقعاً، فبلا شك ستتحقق التنمية السياسية وتتوثق علاقاتها التكاملية بالتنمية الاقتصادية، حيث لا يمكن الفصل بينهما، فهناك تداخل وترابط بينهما، فلتحقيق التنمية الاقتصادية، وتحسين مستوى المعيشة، وتطوير القطاعات الصناعية، والزراعية، والتجارية، لا بد عن توافر ظروف سياسية كالاستقرار السياسي والمجتمعي، وهي أسس التنمية السياسية.
فالتمنية السياسية تتطلب ترشيد القرار السياسي الذي يؤدي إلى استغلال عقلاني وموزون للموارد المادية والبشرية، وكذلك رسم السياسات العامة ووضع الإستراتيجيات الاقتصادية وإنشاء المشاريع التنموية والإشراف عليها، كما أن التنمية السياسية تؤدي إلى القضاء على الفساد والرشوة والاختلاس، والاعتداء على الأموال العامة التي ترهق خزينة حكومة الإقليم، وتجعلها عاجزة عن بناء اقتصاد قوي وفعال ومنتج، فانعدام الرقابة والمحاسبة من قبل الحكومة القائمة على المال العام والخاص وثروة الوطن وترك الحرية والمجال مفتوحاً أمام الأفراد والمؤسسات الاستثمارية يضعفها ويهدد الاستقرار السياسي في الإقليم، مهما كانت قوته الاقتصادية كبيرة، مما ينذر بكوارث اقتصادية كتدني مستوى المعيشية وارتفاع الدين العام وربما المجاعة.
ولذلك فالتنمية السياسية تعمل على التنشئة السياسية للأفراد عن طريق الاتصال الجماهيري وخلق مجتمع واع يطالب بالمحاسبة والرقابة وتحسين المستوى المعيشي وزيادة الدخل، وذلك عن طريق النقابات والجمعيات وغيرها، وبالتالي عدم ترك الباب مفتوحًا أمام النظام السياسي ليعيث فسادًا بالمال العام.
والثابت أن التنمية الاقتصادية تساعد حكومة الإقليم القادمة على الاستقرار السياسي والاستقلالية في اتخاذ القرارات وعدم خضوعها للضغوطات المركزية ويعطي مكانة مرموقة للإقليم بين أقاليم السودان الأخرى، فضلاً عن أن التنمية الاقتصادية من شأنها أن تحسن العلاقة بين النظام الحاكم في إقليم النيل الأزرق والجماهير كافة وبالمجمل العام بناء الاستقرار السياسي.
نخلص إلى إن التنمية الشاملة ليست ضربا من الخيال، بل ضرورة ملحة تحيا بها البشرية، وهي متطلب للتغير السياسي، ومحور مهم في الحياة البشرية، الأمر الذي يوجب فتح الأبواب أمام الجماهير للتعبير عن آرائها وإطلاق الحريات لوسائل الإعلام في النقد البناء، وتعيين مواطن الخلل ونشر الثقافة السياسية والديمقراطية، وإعادة النظر بالأنظمة والقوانين التي تقيد الحريات، ووقف الاعتقالات والملاحقات الأمنية بحق من يعبرون عن آرائهم السياسية والثقافية بوضوح.
وبالتالي فلابد من وإزالة العقبات التي تعترض سبيل التنمية المستدامة، وإطلاق حوارات تستهدف كافة فئات المجتمع لتعزيز مفهوم التنمية السياسية والحياة الديمقراطية، ودعوة الجميع في كافة القطاعات للمساهمة في تعزيز التنمية السياسية للخروج من حالة التخلف إلى التقدم، والتطور، واللحاق بركب الحضارة.