لها وضعية وجدانية خاصة عند الشعب السوداني مدرسة وادي سيدنا.. للأماكن عطر خاص!
ارتباط وجداني ومكاني
ثمة أماكن لها وقع وجداني خاص.. ولها ارتباط وجداني.. وذاكرة المكان والزمان عادة ما تتعلق بها بعض التفاصيل البعيدة.. وتظل مدرسة وادي سيدنا واحدة من الأماكن التي لها وضعية وجدانية خاصة عند الشعب السوداني.. مثلها مثل مدرسة خور طقت أو مدرسة كوستي القوز.. هذه المدراس تميزت ببعدها الأكاديمي والاجتماعي والتاريخي .. فهي قدمت معظم قادة هذا البلد من رؤساء ووزراء وسفراء.. فبعض التاريخ الإنساني السوداني كتب ما بين فصولها وجدرانها وعلى حوائط داخلياتها ذات الأفرع والأسماء الممتدة في ذاكرة التاريخ السوداني.
مجلة وادي سيدنا:
المستر و. م. فركهارسون-لانق من كبار معلمي كلية غردون البريطانيين الذي كان أول من اُسنِدَت إليه نِظارة مدرسة وادي سيدنا، عندما استكتبه القائمون على إصدار مجلة “وادى سيدنا” في عددها الأول بتاريخ السابع عشر من مايو 1948مقالة جاء فيها”عندما تقرر انتقال القسم الثانوي من كلية غردون إلى موقع خارج المدن الثلاث وقع الاختيار على منطقة وادي سيدنا على شاطئ النيل على بُعد عشرين كيلومتراً شمالي مدينة أمدرمان، وهي منطقة تميزت بقُرب من العاصمة مستوفية عدداً من المواصفات التي كانت مطلوباً توفرها في الموقع الجديد.
الشيخ الصوفي:
وكما ذكر الأستاذ عثمان الجزولي (اقترن اسم المنطقة بشيخ صوفي وعالم دين أطلق عليه الـهالى لقب “سيدنا” يقال إنه قدم في أواخر القرن السادس عشر أو بداية السابع عشر إلى ذلك المكان في معية أقوام من أهل شمال السودان الذين استهواهم ذلك الوادي بين نهر النيل وطريق المسافرين غربي النيل، حيث طاب لهم المقام واستقر بهم النوى يرعون قطعان ما كان لديهم من أنعام ظلت تتوالد حيناً بعد حين، وصار ذلك الشيخ يعلّم الصبية القرآن الكريم ويرفع جهالة الكبار تفَقُّهاً في الدين بما تيسّرله من علومه ومعرفته بأصوله.
أصحاب مهن مختلفة:
وعلى بعد نصف ميل شمالي مباني المدرسة وعلى قرب من قرية “النوفلاب” كان والد الإمام محمد أحمد المهدي الذي كان قد قدم مع نفر من أهله واستقر بهم المقام يمارسون مهنة بناء المراكب الشراعية على ضفاف النيل والذى حين وافاه الأجل المكتوب والكتاب المسطور تم دفنه وأقيمت على قبره في لاحق من الزمان قُبّة ظلت قِبلة للزائرين وبين هذا الضريح وقبر ذلك الشيخ العالم الصوفي بدأ بناء المدرسة في عام 1938 وكان يفترض أن تكون المباني قد اكتملت لتبدأ الدراسة فيها سنة 1940 إلا أن اندلاع الخرب العالمية الثانية حال دون ذلك لحاجة الحكومة البريطانية إلى ما كان قد اكتمل بناؤه من مباني المدرسة لخدمة أغراض الحرب.
الأستاذ محمود أبوبكر:
تجدر الإشارة إلى أن الأستاذ محمد أبوبكر الذي كان آخر من تولى “نِظارة” مدرسة وادي سيدنا في صرحها الشامخ ووقف على إخلائها من كل مظهر “مدني – ملَكى” وقام بتسليمها لقائد الكلية الحربية قبل أن تغادر قدماه أرض وادي سيدنا لينتقل إلى رئاسة وزارة التربية والتعليم ومنها إلى إدارة جامعة أمدرمان الإسلامية، تشاء له الظروف أن يكون ثاني اثنين من المعلّمين السودانيين اللذين جاء في الخبر أنهما كانا أول من وطئت أقدامهما أرض وادي سيدنا عندما قدما إليها منتدبين من إدارة كلية غردون لأداء مهمة تنظيمية قبل بداية انتقال المعلمين والطلاب والعاملين إليها قبل بداية الدراسة في يناير1946 (حسبما حدثنا المرحوم حمزة الريّح كبيرسائقي أسطول الترحيل في وادي سيدنا.
زمن عبيد عبد النور:
شيخ عبيد كما كان يلقب كان أول من استمع السودانيون إلى صوته منادياً عبر الأثير”هنا أمدرمان”.. تخرّج في قسم المعلمين بكلية غوردون والتحق بمصلحة المعارف فترة لم تدم طويلاً إلى أن تم ابتعاثه إلى الجامعة الأمريكية في بيروت في أول فوج من مبعوثي مصلحة المعارف، وعاد إلى الكلية بعد حصوله على بكالوريوس الآداب يدرس مادتي التاريخ والتربية الوطنية. فهو من فاض وطنية وشجاعة وقدرة على الخطابة وعرف باسم “أبو الوطنية”.. كان من المؤسسين الأوائل لمؤتمر الخريجين.. ومن شعرائه الأفذاذ، وهو من نظم القصيدة الشهيرة ذات المطلع” يا أم ضفائر قودي الرسن واهتفى فليحيا الوطن”.. إلى جانب تأليفه العديد من الروايات ذات الصبغة الوطنية.
أضواء النجوم:
الأستاذ عبيد عبد النورمن ينطبق عليه قول التربوي الأمريكي هنري آدامز” تمتد آثارالمعلمين في أعماق الأبدية وأبعاد اللانهائية، ومن المستحيل معرفة مدى نهاية ذلك التأثير” وما انطوت عليه كلمات لجبران خليل جبران” ما زالت أضواء النجوم التي أطفأها الرحيل إلى دار الخلود منذ عصور مضت تصل إلينا وتؤثر فينا بـشعة شخصياتهم” فالأستاذ عبيد من الخالدين في دنياوات التربية والتعليم والثقافة والإبداع والسياسة والخطابة.
الجدير بالذكر أن دار الأستاذ الجليل المجاورة لمدارس بيت الأمانة بأم درمان ظلت – تبرّعاً منه – مقراً للإذاعة السودانية سنين عددا قبل قيام مبناها الحالي.