هناك شُحٌّ في بروز قادة قوميين يحققون كثيراً من الإجماع حولهم بعد اختبارهم في المحكات الصعبة. وهذه مشكلة لازمتنا منذ الاستقلال، ولا نزال نفتقد الكاريزما الوطنية لقادة متفق حولهم قومياً، أكثر من الاتفاق عليهم حركياً ضمن ملابسات الفعل السياسي الحزبي، أو المدني، أو العسكري. ولكن يجب دراسة هذا الموضوع.
ولا بد أن الناس تتساءل الآن كثيراً: إذن مَن سيخلف حمدوك لو استقال أو أقاله من أتى به؟ أو من سيخلف البرهان في السيادي من هؤلاء القادة المدنيين؟
هذه التساؤلات المشروعة، والمستمرة، تدل على عدم توفر القادة المختبرين المجمع عليهم، ولا تدل بالضرورة على عدم وجود قادة مميزين في سائر تياراتنا السياسية. ولكنهم لم يجدوا فرصة لإثبات قدراتهم على إدارة الدولة وإن نجحوا في إدارة أحزابهم. على أن اتفاق الناس على قادة أحزابهم شيء، والاتفاق على كاريزما رجل الوطن كله شيءٌ آخر.
في العامين الماضيين، اختبرنا مساهمة وجدي صالح في لجنة التمكين، إذ أعانه فيها زملاء كثر. فلو أن مسؤولا واحدا يباشر في المؤسسات الآن أثبت الاحتفاظ بثوريته، وشجاعته، وحرصه، على مواجهة إرث الإخوان التمكيني، وتدمير جزء منه، لهو الأستاذ وجدي صالح. كان ينافسه في الهمة، والمنطلق، والجسارة، أكرم، والقراي، والتوم، ولكن التغيير الراديكالي غير محبذ عند السيد رئيس الوزراء. فهو كان يحتاج إلى عدم إغضاب الجيش والفلول حتى يُقدِّم شراكة نموذجية تُؤخذ مدحاً على ألسن العالم.
إنّ وجدي لهذه الجسارة والثورية، وجد إجماعاً من كل الثوار، والساعين للتغيير، ويتفاءلون بهمته التي لا تعرف الابتزاز بالتخويف الذي يجيده الإسلاميون. وإذا أردت معرفة صلاح الرجل فقاربه بقبول، أو كره، الإسلاميين له.
ووجدي مكروهٌ للغاية وسط الإسلاميين الذين ما انفكوا يهددونه، وهو محبوب جداً وسط الثوار لوضوحه، وشفافيته، وأخلاقية مواقفه.
ومع بعثيته التي يعرفها الناس، إلا أن وجدي قدم نفسه قائداً وطنياً من الدرجة الأولى، وبدا رجل دولة لا تُفتقد همته المثابرة لإنجاز التغيير الموكول إليه. ولو كان وجدي قد حل منذ البداية محل رئيس الوزراء الحالي، واستخدم ذات نهجه الصارم في مقاومة ابتزاز الفلول، لكان أفضل للثورة التي زفته ثورياً مسيساً بالفهم، والمران، والدربة.
لو استقر الرأي على جراحة ضرورية تعيد القوى الثورية جميعها لمنصة التأسيس، فإن وجدي مُفيدٌ. فلا الدعوة لإسقاط الحكومة تجد إجماعاً لدى القواعد السياسية المكونة للمشهد السياسي، وفي ذات الوقت لن يتطور إصلاح الجهاز التنفيذي إلا إذا أجمعت هذه القوى على قيادة جديدة له تصلحه، وتعيد الاعتبار لثورية مستمرة حتى تنجز أهدافها في مقابل المؤامرات الكثيفة لضرب التغيير نفسه.
واضحٌ حتى الآن، أن هناك انقساماً في تلك القواعد السياسية أيضاً – وليس الأحزاب فحسب – حول جدوى التتريس كمدخل لإسقاط الحكومة في ظل تكامل هذا الهدف مع مسعى فلول النظام السابق لدفع الفترة الانتقالية كلها نحو الهاوية.
إنّ الإخوة والأخوات المنضويين تحت لواء الحزب الشيوعي فصيل أساسي في نجاح الثورة، وقدموا جهداً مميزاً لإسقاط النظام. ورغم اختلافنا الموضوعي معهم في الانفراد بخطوة لا تجمع عليها القواعد السياسية القومية مثل إسقاط الحكومة، أو الفترة الانتقالية، بحاجة إلى الاعتبار من أهمية الإجماع الوطني الذي كان عاملاً جوهرياً في إسقاط البشير. ولذلك نتمنى أن يعملوا على الاستجابة لمبادرات مطروحة من وطنيين لا يقلون قَامةً عن الأستاذ محجوب محمد صالح للوصول إلى منطقة وسطى للتلاقي مع حلفائهم السابقين بدلاً من التلاقي بصورة غير مباشرة مع الفلول، والانتهازيين. وشتان ما بين التلاقيين في البرنامج السياسي.
اعتقد أن العودة لمنصة التأسيس التي كتبت إعلان الحرية والتغيير، والتوافق على إصلاح التحالف الثوري الذي جمعه ذلك التفاوض مع العسكر، خطوة ضرورية لمعالجة هذا التشرذم الثوري الذي ندفع جميعنا ثمنه، ولا يوجد فصيل رابح على حساب الثاني، أو الثالث. ولقد ظللنا ندعو لهذا الطرح لمدى أكثر من عام لقناعتنا أن هذا السودان الضخم بمشاكله التاريخية، وحقيقة تعقيداته الأيديولوجية، والإثنية، والحزبية، يستدعي توافق القوى الثورية، وأنه ما من تيار سياسي واحد قادر مهما أوتي من مقدرات تنظيمية، أو عسكرية، أو مالية، على استعدال حالة بلادنا وحده. فالقناعة أنه حتى لو أُسقطت الحكومة، فإنك ستصل للدرجة الصفرية مع هذه القوى العسكرية التي تستلم البلد للتفاوض معها، أو التقدم لقلع سلاحها عنوةً، هذا إذا لم تتمترس لوراثة البلد وحدها هذه المرة.
فليكن هدف التوافق السياسي بين كل المكونات الثورية بداية لمعالجة فشل الحكومة في الملفات الاقتصادية، والعدلية، والأمنية، والإعلامية، وغيرها. وهذا لن يتاتى إلا ببرنامج سياسي جديد لمُواجهة هذه التحديات، وخلق التفوق السياسي للمدنيين الموحدين أمام المُمسكين بالآلات الحربية.
إذا توصلت منصة التأسيس على التوافق الوطني الجديد ورأت حتمية إعفاء حمدوك من وظيفته مثلاً، وشكرته على جهده، كخطوة أساسية بعد العودة لمنصة التأسيس، فإن الأستاذ وجدي صالح سيكون ضمن الخيارات البديلة، بوصفه قد أثبت قدرة مع زملائه في لجنة التمكين في إزالة الإرث الاقتصادي للحركة الإسلامية، وقدم ما يجعل الثوار يثقون فيه، على أن تترافق هذه الخطوة بتكوين المجلس التشريعي حالاً. وما من شك أن هاتين الخطوتين ستُساعدان كثيراً في ضخ دماء جديدة في الانتقال، وتُعيد الثقة للثوار من كل الطوائف، والمرجعيات، وتقفل الباب في وجه الكيزان، والانتهازيين، وتحجم تغوُّلات العسكر.
اما إذا كان هناك من وجد أفضل سياسي مختبر في العامين المنصرمين، وهو أجدر من وجدي، فليكن رئيساً للوزراء بموجهات واضحة من الحاضنة، وأن لا يتخطى برنامجها، ولا مانع عندئذ من ترشيح وجدي لرئاسة السيادي. ولكن المهم هو أن أزمة القوى الثورية بلا استثناء فادحة، وتتطلب تنازلات للعودة الى منصة التأسيس من أجل الوطن، والثورة، والمواطن، وتقديم رؤية جديدة متفق عليها، وأيضاً قيادة جديدة للجهاز التنفيذي.
ليس العيب وحده في أن تفشل قوانا الثورية في التوافق القومي، ولكن العيب الأكبر في ألا تجعل من هذا الفشل نفسه انطلاقة جديدة للتصحيح، والمحافظة على هذا المكتسب الثوري، ومضاعفته بالمزيد من الكفاح المدني المُستمر. فالثورة الفرنسية نفسها لم تنجح خلال الأعوام العشرة الأولى. وقِس على هذا المنوال.
باختصار: ثورة السودان دون توافق قواها الثورية بلا استثناءٍ، ستدخل في التلاشي. فلنتحرّر للحظة من صناديقنا الحزبية، والجهوية، ونركز على معرفة الرجال والنساء بمجانبتهم سبيل الموقف الحق، لا بالانتماء الحزبي، أو المناطقي. وكما قال سيدنا علي كرم الله وجهه: إن الحق لا يُعرف بالرجال، أعرف الحق تعرف أهله. ومن فضلك شير هذا المقال، ولا مشاحة في نقده أيضاً كيفما يتّفق.