فضل الله رابح يكتب : صراع لندن وباريس ينخر بالسودان ..
لعل الجميع يذكرون دعم بريطانيا الظاهر والخفي لحكومة الفترة الانتقالية وشخوصها لدرجة مل السودانيون تحركات سفيرها بالخرطوم وقتها عرفان صديق الذي كان يتدخل واعظاً في كل شيء وبأسلوب يتنافى مع طبيعة مهام ووظائف السفراء.. عرفان كان يستمد جرأته من ما آلت إليه أوضاع البلاد من هوان وضعف وظروف معيشية ضنكة، حيث لا نجاحات راهنة يعيشها الشعب ولا أمل مستقبلي ينتظره.. فرنسا كانت منزعجة من سيطرة بريطانيا وهي ترى في السودان مدخلًا جديداً وساحة تفسخ اجتماعي وأخلاقي جديدة لا بد من احتضانها، لذلك بعثت بوزير خارجيتها كأول وزير خارجية أوربي يصل الخرطوم بعد ثورة ديسمبر، جاء ليتبنى التحول الجديد بالسودان ويقدم الوعود التي منها مؤتمر باريس الفاشل الذي انتهى قبل أيام قليلة وهي خطوة لم تكن ميسورة لبريطانيا بل كانت مصدر قلق وضجر سيما بعد سخط السودانيين من تصرفات سفيرها عرفان لدرجة خروج مواكب تندد بأفعاله وتطالب برحيله تلك خطوة وواقع مهين للمملكة المتحدة ومضر بماضيها الذي تراه جميلًا في السودان كأحد أهم مستعمراتهم في إفريقيا، وحتى تحد لندن من خسائر خطوات عرفان قامت بسحبه فوراً ثم حضر وزير خارجيتها ليغسل خطوات عرفان بماء وصابون الماضي ووعود المستقبل لتقليل المهانة على بريطانيا وإعادة مجد المستعمرة، لكن يبدو لم تفِ بريطانيا بشروط نجاح السيطرة، إذ لم تعد الأزمنة والأشياء تصلح لتاريخ الماضي، فلابد من كلفة جديدة إذا أرادت إعادة مجدها في السودان، فقد جرت نواميس كونية جديدة ربما غيرت طبيعة الأشياء في السودان فلم تعد الخرطوم في مكانها كما كانت قبل العام 1953م، كانت ثمة محاولات فرنسية تحول دون سيطرة بريطانيا على مسار الانتقال في السودان وماكرون ووزير خارجيته يحاولان استمالة المجموعة الحاكمة التائهة بعبارات عاطفية على شاكله إعجابه بالثورة السودانية ورموزها الشبابية، واضح أن باريس درست نفسية النشطاء والكتلة الشبابية الحية التي تعتبر نفسها نواة التغيير وهؤلاء يمكن التأثير عليهم بكلام الحريات والتباكي عليها حين تلقى عليهم وبريطانيا ركزت مع النخب وعملاء المنظمات الدولية وانهمكت معهم والآن ما ينبغي أن يراقبه المتابعون بعد مؤتمر باريس أن صراع لندن ـ باريس حول السودان قد توسع وهو صراع لا يتجزأ من طبيعة وشكل الصراع الأنجلو ـ فرانكفوني القديم على أفريقيا.. اليوم بريطانيا قلصت تمثيلها الدبلوماسي في السودان إلى درجة قائم بالأعمال، وهذا مؤشر خطير جداً ومرحلة متقدمة من مراحل عدم قناعة المملكة المتحدة بالمجموعة الحاكمة وإدراكها بالفارق الحضاري بين المنظومة الحالية الحاكمة وتواضعها والحكومات السودانية السابقة ومستويات كوادرها وقدراتهم الفنية والإدارية.. من المتوقع إنزلاق الأوضاع الاقتصادية إلى أسوأ من حالها الحالي نتيجة عدم توفير الدعم المالي والدبلوماسي الدولي بخلاف ما كان يتصور السودانيون بأن بعد الثورة وتغيير النظام الحاكم ستفتح عليهم أبواب الخير الدولي ليأتيهم المن والسلوى، والغريب أن الحكومة اتبعت كل نصائح الغرب وطبقت كل روشتات البنك الدولي لكنها لم تشفع لها والحال يمضي إلى أسوأ ولم يزدهم تقاربهم مع الغرب ومنظماته ومؤسساته إلا خبالاً وبعداً وبات السودان كله معزولاً في وادٍ والمجتمع الدولي الذي يريدون الاندماج فيه في وادٍ آخر.. لندن لا تريد أن ترى من هو أرجح منها في السيطرة والتحكم في الأوضاع السودانية كما أن أدران وحسد الصراع الأوربي وشهوة السيطرة على الموارد حاضرة في كل خطوة.. فالسودان إذا أراد إنقاذ نفسه عليه بدرء خطر المتنافسين عليه والمتنازعين حول موارده بتحرير إرادته عن وعظهم والابتعاد عن فرنسا وسفورها وبريطانيا وطموحها وإلا ستلحق به أزمتان الأولى فقدان الدولة السودانية والسير على طريق الإصلاح والمجتمع السوداني بمحاولة إفساد أخلاقه وقيمه المحسنة تحت حريات وديمقراطية باريس العريانة.. لندن وباريس كلاهما لئام ولا فرق بين ثقافتيهما سواء كانت ثقافة بريطانيا القديمة أو ثقافة فرنسا الحديثة كلهم تقريباً يحاولون أن يغيروا بالوعظ الدبلوماسي طبيعة السلطة الحاكمة في السودان لتحقيق أهداف بلدانهم وعبر السيطرة على الحكومة يتمكنوا من تغيير هوية وشخصية السوداني الأصيلة واستبدالها بشخصية ضعيفة يسهل قيادها وتوظيفها، وقتها علينا أن ننتظر الانهيار الشامل نتيجة الانقياد القهري والقسري الأعمى لهذه السياسات والأطماع الدولية التي تقدمها محاور معادية عملياً للسودان ولن تحقق له أي مصلحة سياسية أو اقتصادية، وهي محاور ليست لها رغبة في تحقيق منافع متبادلة سواء كانت سياحة أو تجارة أو اقتصاداً مع السودان، فهي مسارات سيطرة على مقدرات الدولة ليس إلا والسودان ينبغي عليه أن يتعلم من دروس لبنان وليبيا واليمن والعراق وغيرها من الدول التي دخلت هذا النادي، واين هي الآن ..? وعليه أيضًا إعادة التموضع الصحيح في التوافق الوطني الداخلي والصراعات الإقليمية حولنا والتواصل مع الغرب، هذه كلها خطوات قادرة على إعادة إنتاج واقع اقتصادي واجتماعي جديد يحمل وعوداً بمستقبل أفضل للسودان .