مهرجان الإبداع العسكري وفن الإحاطة
(1)
قبل سنتين تقريباً دعاني الأخ الحبيب سعادة الرائد محمد ضرار لحضور مهرجان الإبداع العسكري أو ما يعرف اصطلاحاً بمهرجان (الجلالات)، وكان ذلك بمدرعات الشجرة .. حرصت على تلبية دعوة سعادة الرائد محمد ضرار لتغطية المهرجان إعلامياً.. وسبب حرصي على الحضور المودة والتقدير ما بيني وبينه ولأنني أرى فيه مشروع قائد ملهم وحصيف.. فهو كما معروف بارع جداً في مجاله كواحد من أمهر العازفين على آلة الكمان وهي تخصصه الدراسي.. كما أنه مميز جداً في مجال التوزيع الموسيقي وقيادة الأوركسترا وتشهد على ذلك قيادته لأوركسترا دار الخرطوم جنوب والتي حصدت جائزة المركز الأول في أي مشاركة تنافسية لها تحت قيادته..
(2)
وأذكر أنني كتبت عنه قبل أعوام عديدة وقلت (محمد ضرار الذي تخرج في كلية الموسيقى قبل أعوام قلائل.. كان يثير دهشة معلميه بالكلية وهو يكاد يجعل هذه الآلة تنطق وتتكلم.. لأنه يجيد التكنيك الخاص بها ويتقن أسلوب المحاورة الموسيقية والبراعة اللامتناهية التي يؤدي بها منفرداً أي جملة موسيقية فيجعلك تنفعل معه بإبهار وتشعر بالدهشة والانسجام الروحي الكامل مع ما يؤديه من معزوفات.. ومحمد ضرار قادر على أن يفرغ شحناته الأدائية في شكل تيار يسري في كل جسدك. وهو له القدرة على التعبير بالموسيقى بعيداً عن الكلمات.. لأنه أصعب في حال غياب الكلمات، ولكن لأن طريقة معالجته بالحرفة والصنعة الموسيقية فيها الموهبة الخارقة المسنودة بالتأهيل الأكاديمي..
(3)
(الكوندكتر الصغير) هو اللقب الذي يطلق عليه الآن وذلك بفعل الشخصية الكاريزمية التي يتمتع بها. .فهو رغم ضغر سنه لكنه يمتلك كل مواصفات وخصائص القائد الموسيقي الذي يملك القدرة على الإلهام.. وتلك المزايا في شخصية محمد ضرار تجعلنا نشعر بالغبطة والفرحة لأن هناك شاباً جديداً قادراً على أن يجعلك تتبعه كما تتبع نمواً لحنياً يمشي نحو الذروة والانفعال.. وفوق كل ذلك فهو شاب تتكامل عنده الرؤية الموسيقية والأحاسيس الجمالية بمضمون الفكر الموسيقي الجديد.. ولعل هذا الشاب الآن يمثل ظاهرة موسيقية فيها الكثير من التباشير بموسيقى يمكن أن يشكل حضوراً جيداً وجاداً.. فهو أظهر قدراته حينما سنحت له الفرصة ليكون (كوندكتر) لفرقة دار الخرطوم جنوب).. محمد ضرار.. يسعدنا أن نقدمه باكراً ونقول بأنه سيحدث إضافة حقيقية في مجال الموسيقى، وحتماً سيكون رقماً يتطاول فوق أشكال العديدين.. فقط احفظوا اسمه جيداً، والأيام بيننا لتؤكد ما ذهبنا إليه.
(4)
وبالعودة لسيرة مهرجان الجلالات كنت وقتها أذهب يومياً لمدرعات الشجرة لحضور ليالي المهرجان.. ولابد أن أذكر بأنني (ملول) وفي كثير من الأحيان أكون (مزاجياً) وأنتقي مثل تلك المشاوير ولا أكون حريصاً على الذهاب يومياً لأي فعالية.. ولكن الفعالية وقتها أجبرتني على الذهاب يومياً بسبب توفر عنصر المتعة والتشويق والجاذبية لا سيما أن المهرجان يضم معظم المبدعين في السودان من الذين ينضوون تحت ألوية عسكرية ووحدات.. تلك العوامل جعلت من مهرجان الإبداع العسكري فعلاً إبداعياً جاذباً بتكوينات متنوعة احتشدت بالثراء النغمي والأفكار الموسيقية والشعرية المختلفة والجديدة.
(5)
المهرجان في محتواه التنافسي يشتمل على عدة أنماط إبداعية مثل الأغانى الوطنية والتراثية، وإلقاء الشعر، وفنون المسرح والدراما، والقصة القصيرة.. ومن خلال الأيام التي شاهدتها ووقفت عليها أفرز المهرجان إبداعاً حقيقياً في كل مجالات التنافس ولكن المؤسف أن تلك الأعمال ظلت حبيسة ولم تخرج للملأ حتى يتوقف عندها الشعب السوداني.. وبتقديري أن سبب عدم انتشارها يرجع لغياب التفاعل الجماهيري.. لأن المهرجان يقام بعيداً عن الناس ومحصوراً فقط للوحدات العسكرية ومنسوبيها وهذا ما جعل النتائج الكلية محصورة في أضيق مساحة.
(6)
بتقديري من الضروري أن يتجه التفكير بناحية فتح فعاليات المهرجان ليكون متاحاً للجميع وضرورة التطبيق الفعلي لمسمى (قوات الشعب المسلحة).. والمهرجان بوضعيته الحالية هو مهرجان (القوات المسلحة)، وأعتقد أن ذلك (تضييق لواسع) مع أنه في الإمكان أن يكون فعلاً ثقافياً متاحاً (للشعب) وليس حكراً أو حصراً على الفئات العسكرية فحسب.. ومن يخططون للمهرجان القادم عليهم طرح نظرية (فن الإحاطة)، وهو نوع جديد من المفاهيم الفنية التي تجعل الإبداع يذهب للناس في أماكنهم ويبحث عنهم وليس العكس.. ولا أدري ما المانع في أن تقام ليالي المهرجان في العديد من المسارح المفتوحة مثل المسرح القومي ومسرح أمبدة ومركز شباب السجانة وبحري ودار الخرطوم جنوب ومسرح خضر بشير وغيرها من الأماكن المتاحة التي تجعل من المهرجان أكثر التصاقاً بالشعب.