محمد محمد خير يكتب.. المنقة الضكر
في هذا البلد المُستطاب، روائح تشدُّك، وتصيِّر لسان حال أنفك (رغم أنفك). رائحة الجوافة، ورائحة المنقة، ورائحة السودان نفسه. وأنا مِمّن ظلت تتغشاه تلك الروائح في المنفى إلى أن تداعيت إلى هنا.
حين أنجزنا بناء السور الخارجي لمنزلنا الواقع في أكثر البقاع غنىً بالتربة الطينية، (شيّدت الأشجار) قبل أن (أزرع الغُرف)، وحلمت برائحة المنقة. زرعت الجوافة والبرتقال والنخل والليمون والمنقة، وزيَّنتها بنبتة التورنتا وأزاهير سلوى، ونذرت حياتي لها.
قرّرت أن أصادق الشجر، لأنّ طبائعه أخفُّ وطأةً من البشر. الشجر هو الكائن الوحيد الذي لا يُضمر الحقد، هو الصّفوح لأنّه يحني فروعه للرياح، مثلما يمسح الكادحون العرق، ولأنّه البيت المفتوح للطير في كل وقتٍ، وأنا أعشق الطير، لأنّ بعض النساء شبيهاتٌ به، أنظر ماذا قلت في شعري:
ليس لي نسبٌ في الحمام
ولا رَحمٌ في الطيور
غير أني شغوفُ النساءِ الشبيهاتِ بالطَّيرِ
إنَّ لهنَّ منَ الكيدِ
ما قد يبوِّأهن مقام الطيور
مرةً غرَّدتْ بتحيَّتِها امرأةٌ صادحة
فتدفَّق ريشٌ بكل مسامات جلدي
حتى تكوَّر فاهي/ وداهمني كما الطلق حبق
(فشقشقت) رادَّاً تحيَّتَها!
عَودتي للسودان ارتبطت بأمنية أن تكون لي شجرة منقة ثامرة وفوَّاحة، أملس صفقها مثل (توب السواكني الحُرّ)، وَلُودةٌ على مدار العام، وضامرةُ الحشا؛ ولكن تكون على مستوى هذه المفردات اشتريتها من كلية الزراعة بشمبات، بواسطة زراعي جمعتني به مقاعد الدراسة، اختار لي شجرة من جنوب أفريقيا قال لي: إنّها ستثمر بعد خمسة أعوام، وسيكون خراجها أصفر مع خلطة لون حمراء، دلالةً على مُناهضتها (للتفرقة العُنصرية). صبرت كل هذه السنوت، أرعاها وأسمّدها وأروّثها، حتى أكملت عامها الخامس، دون أن تُنجب ذرية تصير لي أحفاداً!!
زارني بعدها مهندس زراعي مُواسياً، فأخبرته بأمر شجرتي، فوقف حيالها مُتأمِّلاً ومُتفحِّصاً ومطبِّباً ومُشافياً، لكنه قال لي: (المنقة دي ضكر)!!
صفعني الخبر، وزلزلني ونهنهني، وخلخل تماسكي، فأنا هجرت كندا، وقاطعت أصدقائي، و(انكبس) نشطاء الأسافير على بدني (كبسة الضبان في العضم)، لأجل أن تكون لي شجرة منقة ولودة (تجي تطلع لي ضكر)؟!
لاحظ المهندس شحوبي حين تلقّيت الخبر بانخطاف لوني، وتبعثر الحُزن على وجهي، فقال لي: لكن الله أكرمك بالليمونة، فحصَّنتها بقولي: (الله يجعلها من المستورات)!
صرتُ أحدِّق في الشجرة التي أخفت هويَّتها لخمس سنوات، لم أشأ أن أناديها (بشجرة المنقة)، أطلقت عليها (شجرة المانقو)، فالمانقو مذكر المنقة، مثلما النساء جمع امرأة، تذكرت أشعار يوسف رزقة (ليست التاء في طاعتي/ لأونث شكلي/ كي أتزوج بي)، وتذكّرت عمِّي علي جن الجزار الأشهر بسوق أم درمان، كنا نعمل معه في إجازات الصيف بالجزر. كان له أمثال شعبية (قاطعا من راسو) من شاكلة (أبعد البيضة من الحجر، وأمسك الأنثى من الذكر) وما زلت أحدِّق في معشوقتي التي ظننتها أنثى.
رابني حديث المهندس، لأنني ما زلت أحلم أن شجرتي أنثى، فقرّرت أن (آخذ سكند أوبنيون)، وبالفعل كان لي حديثٌ طويلٌ مع خبير زراعي، حول جدلية الأنوثة والذكورة في المانقو أو المنقة، فأخبرني بأنّه لا يُوجد في كل السُّهول والمروج والبساتين والمزارع (ذكر منقة)؛ كل أشجار المنقة إناث (يحسبن من الدلال زوانيا.. ويصدهن عن الخنا الإسلام)، لكنني أخبرته بأن شجرتي لم تلد؟ فزوّدني بأنّها تلقح نفسها بنفسها، وهذا الطور يكون في العام الخامس. سرّني للغاية تلقيح النفس بالنفس، فهو (سترة)، فما أضرَّ بسيرة البشر غير التلاقح بالتلقيح. سرّني أنّ شجرتي حين تراهق لا تحتاج لذكر يمدّها بالفوضى اللازمة، وسرّني أنها حين تلاقح نفسها بنفسها تُطعمني ثمرة تخرج من بين ترائبها، كلما اشتهت نفسها. إنّها الملاقحة الوحيدة المُستثناة من الرجم والمصفَّاة من كل إثم. وسرّني أيضاً أن شجرتي ستكون دليل الإناث إلى ما يجيش بأعماقهن من الشبق الأوّليّ.