محمد محمد خير يكتب : “جلسن شوف يا حلاتن”
كأنما كان الشاعر هنا يقصد أغاني الحقيبة بقدر ما يحيط الناس بها من افتتان.
هو الشعر الأوحد الذي وحّد وجدان السودانيين، فاتفقوا عليه وظلوا يرددون أغانيه منذ الأربعينيات حتى اليوم دون كلل ودون فاصلة ليصبح شعر أغاني الحقيبة هو الشيء الوحيد الذي اتفقت عليه الذائقة دون خلاف.
حقيبة الفن جاءت ملبية لذوقنا ومُخصِّبة لوجداننا وناظِمة للأناشيد الداخلية في أعماق كل منّا.
كأن هذا الشعر كُتب نيابةً عن مُلتقِّيه وأصالةً عن كاتِبه الذي يتوجَّه للآخر أكثر من أن يتوجَّه للشعر نفسه.
أضافت أغنية الحقيبة أبعاداً أخلاقية للأغنية فلا حسية ولا شطط ولا إسقاطات جنسية، ولا إشارات رامِزة لتلك المعاني. جَسّدت قِيَماً نابِعة من عقيدة أم درمان المُنعقِدة على الأخلاق والجمال.
وقدّمت الحقيبة أجيالاً من الشعراء الفحول الطالعين من المِهَن الحرفية ورائحة الناس، فكان لابد أن يُكتَب لها البقاء والخلود والتداوُل لأنها حملت قوّتها من نسجها وتقليدها الذي شكَّل عامِلَ صمودها القوي.
أشعار الحقيبة في تقديري أشعار حداثة، فالحداثةُ لا تعني المنقول والمُترجَم والشعر المُبهَم والغامِض بقدر ما تعني قُدرة النصِّ الشعريِّ في أن يحتفظ بالخُضرة الدائمة لزمن طويل.
انعقد جوهر هذا الشعر على المكان، وارتبط بمدينة أم درمان تلك المدينة التي قامت صروحُها على أرض ثورة وطنية شاركت فيها كل قبائل السودان بمختلف لهجاتها المحلية، وحين استقرّت في أم درمان بدأت لغة منحوتة تصعد بفضل أم درمان التي لعبت دور المصهر الثقافي الذي أوجد لساناً وحَّد بين مختلف تلك الأنساق الثقافية.
اتّسمت تلك الأشعار بنقل مناخات وتقاليد الشعر العربي القديم وبأصوله البلاغية وبالاستعارات والبديع والجِناس والطِّباق انظر
ياليالي أحبابي (ما شفيتي) جراح
بل (شفيتي) فؤادي بي مِدية الجرَّاح
فشفيتي الأولى تعني الشفاء من العلة وتعني الثانية التقطيع بالسكين.
طيبة فيديني
تهت في ديني
روحي في إيديكي
ولا في إيديني
كان للغة الامدرمانية المنحوتة الجديدة تأثيرها القوي على شعراء لم تكن اللغة العربية الأم لغتهم الأصلية مثل خليل فرح، الذي جاء أم درمان راطناً ورحل لسانًا مبيناً، بعد ان (تمّ دورو ودوّر) تاركاً لنا تراثاً شعرياً تتصادَح به الأجيال من (فلق الصباح) حتى (عزة في هواك) مانفستو الغناء الوطني السوداني.
كلما عدتُ لكندا تعود معي الحقيبة، وأحس أن أغانيها تُدثّرني ونصوصها المِعطار تملأ نفسي بتلك المحبة التي أحسُّ دبيبها من فروة الرأس حتى قوس الأظافر.
وأغاني الحقيبة يُمكن أن تتحوّل من مجرد طرب لحالة وطنية تُشكّل مصهراً ثقافياً بين أنساق ثقافات بلادنا المختلفة لأنها في الأصل نتاج تلاقُح ثقافي مُختلف اندمج في مدينة أم درمان وانغرست مفردته في كل لسان، وسطع بكل هذا التوهج منغرساً في وجدان الجميع دون رجوع لأصل الهوية، بل أصبح هوية بذاتها تتوسّل لكل الثقافات السودانية المختلفة بتبنّيها والانتماء إليها لأنها ناتج اندماج ثقافي لم يُكرّس ثقافة واحدة.
ما أحوجنا اليوم لشعر الحقيبة كي نندمِج في مرحلة ما بعد السلام.