الضامن الأوحد لاتفاق نيفاشا كان جيش قرنق، ظلت القوة العسكرية تمثل طاقة دفع رباعي لحركات الكفاح المسلح بأطراف البلاد، لأن الخرطوم منذ دخول محمد علي باشا حتى سقوطها بيد الإمام محمد أحمد المهدي لا تمكّن كائناً من كان من نفسها إلا بعد أن يعلن عن فحولة مدعومة بفياجرا السلاح، هكذا أخبرنا تاريخ هذه المدينة الفاضلة العصيّة على التطويع، فالتداول السلمي للسلطة فيها مهدد بطموحات النخب السياسية التي لا تفضل الدخول في مغامرات ديمقراطية غير مأمونة ولا مضمونة النتائج، وكل صفوة جهوية من الأفندية تختبئ خلف جنرال يملك السطوة العسكرية، حتى إن الانتفاضات الشعبية التلقائية الثلاث لم تخترق جدار الحلف المدني العسكري القديم المتجدد، وفي كل هبّة ثورية يبيع القادة المدنيون أتباعهم السذج الحالمين بوطن المحبة والسلام والوئام والحكم المدني الراشد للبزة العسكرية، والزواج الكاثوليكي بين ضباط الجيش والأفندية مايزال يقضي شهوراً وسنوات من العسل المرير.
الجيوش الكثيرة المنتظرة لعمليات الدمج والتسريح أصابها الملل، وبند الترتيبات الأمنية مازال يراوح مكانه ولا يخضع للتنفيذ، وفوبيا شيطان الآخر ما برح مكانه المتوسط لعقول النخب السياسية السودانية الشرقية والغربية والشمالية، وتقسيم سلطة الأمن والجيش والشرطة فيما بين هذه النخب هو المحك والاختبار الحقيقي لحسن النوايا وسوئها، ودخول جيش الجار الشمالي تحت غطاء التناور العسكري ينبئ عن وميض نار مخبوء تحت الرماد، والصياح يعلو بأصوات شهيرة لبعض الناشطين المحسوبين على مركزية الدولة، ليقولوها صراحة إنهم لا يرحبون بوجود هذه الجيوش الكثيرة القادمة من الأطراف البعيدة، حالة من التشكك والتحسس والرفض تشوب العلاقة بين قادة جيش الحكومة ورتب عليا بالقوات العسكرية التي كانت متمردة على سلطة الخرطوم طيلة عهد الرئيس المخلوع، التوتر يزداد يومياً ونذر انفجار الوضع الأمني السائل محتملة والاحتقان الاجتماعي وشظف العيش يزيدان هذا التوتر توتراً، فهل تترك الخرطوم غنجها ودلالها المستفز لخاطبي ودها وعشاقها؟ أم إنها مازالت على عهدها وضلالها القديم مثيرة لحفيظة غيرة عاشقيها بمغازلة الأجانب والغرباء المستميتين طمعاً من أجل نهب ثروات وخيرات أرض السودان؟
الخطر الداهم على وحدة الجسد الوطني تعكسه الزيارات الماكوكية لرموز الحكم، والرحلات الجوية المتكررة للقاهرة وقطر وتركيا والرياض وأبوظبي وألمانيا، هذه الهرولة المستمرة منذ عهود الأنظمة السابقة دافعها الأساس هو الضعف والوهن الداخلي لرموز السيادة الوطنية، وولائهم لموجهات الأجندة الإقليمية والدولية دون أي اعتزاز أو إيمان بالأجندة الوطنية، وأخطر ما في الأمر هو الولاءات الموزعة بين حكومات دول الشرق والغرب من جانب وبين العسكر الحكوميين ومعهم المكافحون المسلحون الذين كانوا متمردين من الجانب الآخر، هذا الضعف وذلك الهوان نابع من الارتهان للحلول الخارجية وتبخيس الجهود الوطنية، عبر التاريخ الحديث للدولة السودانية عاثت مكاتب المخابرات الأجنبية تخريباً وأفسدت النزعة القومية لدى الفرد والحاكم، فتجد الحاكم والمحكوم يعلقان آمالهما العراض على السفن المحمّلة بالأرز والقمح الآتية من العواصم التي تدير هذه الأجهزة المخابراتية، ولن يكون تنجيماً ولا ضرباً على الرمل لو قال شخص أن تأخير بند الترتيبات الأمنية جاء نزولاً عند رغبة مؤسسات الاستخبار المتفيئة ظلال أشجار اللبخ بعاصمة اللاءات الثلاثة، وليس غبياً ذلك الذي يدير هذه الملفات أن يقبل بتكوين جيش قوي في الإقليم وعلى أرض النيلين.
الثورة المهدية تفجّرت من أجل تخليص الشعوب السودانية من أعباء الضرائب الباهظة التي كان يفرضها عليها نظام الاستعمار التركي، فالتحم المهدي وتورشين ودقنة وزلزلوا ـركان أرض السودان تحت أقدام الغزاة وحرروا الخرطوم، فهل من مهدي آخر لهذا الزمان يخرج لنا من قمقمه ليعيد التاريخ نفسه ويقتلع العملاء والمأجورين والمرتزقة والمتواطئين وحراس الأجنبي؟ لا نريد لوطننا أن يستباح للمرة الثالثة وفي الألفية الثالثة حتى لا يرث أحفادنا عقدة الحفاوة المبالغ فيها بالأجانب، وحتى لا يبغضوا بعضهم بعضاً كل هذا البغض، العقدة التي أقعدتنا وأوهنت عزم أجسادنا وأحبطت أعمالنا وحطت من همتنا ومكنت القنوط في وجدان الأجيال المتعاقبة، إنها الفرصة الأخيرة لبناء الوطن الذي يسع الشرق والغرب والشمال والجنوب الجديد، لقد أرهقت هذه الشعوب جراء أفعال أبنائها المرتمين في حضن الغير وسئمت الوحدة الإجبارية والعيش في عش زوجية ملأى بكل أسباب البغضاء والشحناء والتنابز بالألقاب، فإما إمساك بمعروف وإما تسريح بإحسان، لقد كره الناس هذه الحسناء – الوحدة – المغتصبة والمجبورة، إنّهم يتوقون إلى أن يعيشوا في سلام حقيقي ولو على قمم جبالهم أوعلى سفوح مرتفعاتهم وبين سهول ووديان مزارعهم منفصلين عن هذه الحسناء الكذوب اللعوب.