الخرطوم ــ الصيحة
بعد ثورة ديسمبر المجيدة، دخلت العلاقات بين السودان وتركيا، منعطفاً حرجاً.. وارتفعت أصوات السودانيين مُطالبةً بإعادة النظر في اتفاقية ميناء وجزيرة سواكن على البحر الأحمر، وكان قد وجدت اتفاقية (سواكن) مع الجانب التركي جدلاً كبيراً، وظلت محل اعتراض واسع إبان توقيعها بالأحرف الأولى في عهد المخلوع البشير، بجانب تعقيدات أخرى عصفت بالعلاقات الثنائية خاصةً بعد أن احتضنت تركيا قيادات النظام البائد الذين فرُّوا إليها ووفّرت لهم الحماية، وليس مُستغرباً بعد هذه التقاطعات أن تنظر الحكومة الانتقالية إلى تركياً بأنها تمثيل لجناح الإخوان المسلمين وداعمة للحكومة السابقة.
وفي خطوة جريئة تُعد اختراقاً كبيراً في إعادة التوازن لعلاقات البلدين، لبّى النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي”، زيارة إلى تركيا بدعوة من قيادتها لكسر الجمود في العلاقات الثنائية، وبوصول “حميدتي” إلى أنقرة، انتقل مؤشر الحذر والفتور إلى خانة التوافق مُجدّداً، خاصّةً بعد تأكيدات الرجل بأنّ سياسَة السودان الخارجية مبنية على المصالح المُشتركة، وأن الحكومة الانتقالية لا تلقي بالاً لسياسَة المحاور الخارجية وتضع مصلحة السودان نصب عينيها، وأنها حريصة على إقامة علاقات مُتوازنة مع جميع الدول.
فُتُورٌ وجُمُودٌ
دخلت العلاقات التركية – السودانية، مُنعطفاً جديداً بعد الثورة، خصوصاً أن الاتفاقيات المُوقّعة بين الرئيس التركي أردوغان والرئيس المعزول عمر البشير، أثارت حَالةً من الجدل في الشارع السوداني، لإضرارها بالمصالح السودانية، لا سيما اتفاقية إسناد تطوير جزيرة سواكن إلى تركيا، والتي وجدت رفضاً شعبيّاً في الداخل، فيما ظلّت تركيا تُحافظ على (شعرة معاوية) في علاقتها مع الحكومة الانتقالية والتزمت الصّمت منذ الإطاحة بالبشير، باستثناء تصريحات دبلوماسية تُؤكِّد عُمق العلاقة بين السودان وتركيا، في وقتٍ لم يحدث فيه تبادُلٌ رفيع المُستوى للزيارات على العكس مما قام به المسؤولون السودانيون من زيارات إلى دول عديدة خلال الأشهر الماضية، خَاصّةً بعد تشكيل الحكومة الانتقالية.
اختراقٌ جديدٌ
تجمع تركيا والسودان، علاقات استراتيجية طويلة الأمد واستثمارات واسعة تشمل الاتفاقيات المُبرمة منذ عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، وبعد الثورة أصبح مصير هذه الاستثمارات مجهولاً في ظل تنامي العلاقات السودانية، خاصة بعد تنامي علاقات السودان قوى فاعلة أخرى مثل السعودية والإمارات ومرور البلاد بمرحلة انتقالية.
وفي محاولة لإنهاء القطيعة غير المُعلنة مع الحكومة الانتقالية في السودان، بادرت تركيا بتقديم دعوة رسمية للنائب الأول لرئيس المجلس السيادي لزيارة أنقرة لبحث علاقات البلدين، إذ ترى تركيا بحسب مراقبين أن ما يجمع البلدين شراكة مع الشعب لا الأنظمة، ومن جانبه في خطوة وُصفت بالجريئة رحب “حميدتي” بالزيارة وحطّت طائرته في أنقرة على بساط الترحاب من الجانب التركي ما يُعد اختراقاً مهماً في علاقات البلدين.
تفاصيل الزيارة
فور وصوله على رأس وفد كبير، انخرط “حميدتي” في جلسة مباحثات رسمية مع نائب الرئيس التركي فؤاد أوقطاي، وتطرّقت المباحثات بين الجانبين لقضايا ترقية العلاقات الثنائية وسبل تعزيز التعاون المشترك في مُختلف المجالات، بجانب التنسيق والتعاون فيما يلي القضايا الإقليمية والدولية. وبحث الجانبان تطوير العلاقات في مجالات الطاقة والنفط والزراعة والثروة الحيوانية والبنى التحتية والطرق والجسور والنقل والمواصلات.
وأكد النائب الأول لرئيس مجلس السيادة، الفريق خلال المؤتمر الصحفي المشترك، على أهمية العلاقات مع تركيا، مشيراً إلى ضرورة تحديث وتنشيط الاتفاقيات المُوقّعة بين البلدين، واصفاً المباحثات التي تمّت بين الجانبين على مُستوى الوزراء بالمُثمرة، مشيراً إلى أن السودان بعد التغيير سيكون مُنفتحاً على كل العالم لتحقيق المصلحة الوطنية، داعياً المُستثمرين من جميع العالم وخاصة تركيا للاستثمار في السودان، وشدّد على أهمية إنزال الاتفاقيات المُوقّعة مع الجانب التركي إلى أرض الواقع بما يحقق مصلحة الطرفين بعد مراجعتها وتحديثها، قاطعاً بأن الزيارة سيكون لها ما بعدها.
وقال “حميدتي” إنه أجرى مُناقشات ثنائية مع نائب الرئيس التركي فؤاد أوقطاي بحثت القضايا التي تعيق العلاقات، مؤكداً التوصل إلى حلول بشأنها.
تَرحيبٌ تُركيٌّ
من جانبه، رحّب نائب الرئيس التركي، فؤاد أوقطاي بزيارة الوفد السوداني برئاسة “حميدتي”، موضحاً أن المباحثات أكدت العزم على تفعيل التعاون المشترك، وقال إنّ بلاده تولي أهمية خاصّة لعلاقاتها بالسودان، مُعتبراً الزيارة بداية لإعادة تعزيز العلاقات، معلناً وقوف بلاده ودعمها للسودان خلال المرحلة الحالية، وأضاف: سنبذل جهودنا لتنمية السودان، وزاد: إنّ الاتفاقيات المُوقّعة بين البلدين وضعت العلاقات على أُسسٍ متينة واستراتيجية، مؤكداً عزمهم على رفع حجم التَّبادُل التِّجاري بين البلدين إلى مليار دولار من خلال الاستثمار في مجالات الطاقة والنفط والزراعة والثروة الحيوانية وغيرها من المجالات التي يتمتّع بها السودان، وَأَضَافَ “الشراكة التجارية والاقتصادية يُمكن أن تشهد تقدُّماً وتطوُّراً كبيراً”، قاطعاً بوجود إرادة قوية بين الأطراف للمُضِي قُدُماً بعلاقات البلدين، مُشيراً إلى أنّ السودان تعرّض لقيود مالية واقتصادية أعاقت تقدُّمه، مُعتبراً قرار رفع السودان من قائمة الإرهاب صائباً رغم تأخُّره، وقال إنّ بلاده لا تريد أن ترى السودان غير قادر على الاستفادة من موارده الهائلة، وأبدى خشيته من تأثير الخلافات القائمة حول سد النهضة والفشقة على مُجمل القارة الأفريقية، داعياً إلى حلِّها بالحوار، وأعلن استعداد بلاده للتوسُّط بين الأطراف في قضية الفشقة.
حميدتي وأردوغان
في اليوم الثاني للزيارة، شارك النائب الأول لرئيس مجلس السيادة، الفريق أول محمد حمدان دقلو، كضيف شرف للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان في افتتاح مسجد (تقسيم) بإسطنبول، ويرى مراقبون أن وجود “حميدتي” كضيف شرف في المُناسبة مع الرئيس التركي مُؤشِّرٌ لدخول علاقات البلدين مرحلة جديدة بعد جفوة امتدّت حوالي عامين.
وأعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عن عميق شُكره وتقديره لمشاركة النائب الأول لرئيس مجلس السيادة في هذه المُناسبة، التي وصفها بالكبيرة لتركيا، يُذكر أنّ الوفد الوزاري الذي رافق النائب الأول في زيارته لتركيا ضم وزراء الزراعة والغابات، الثروة الحيوانية، الطاقة والنفط، التنمية العمرانية والطرق والجسور، والنقل، إلى جانب طاقم السفارة السودانية بقيادة السفير عادل إبراهيم.
ترميم العلاقات
يرى الخبير في الشؤون السياسية محمود إدريس تيراب، أنّ زيارة النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي” إلى تركيا تجئ في وقتٍ، السودان أحوج ما يكون لترميم علاقاته الخارجية خَاصّةً بعد سقوط النظام السابق وتكوين حكومة الفترة الانتقالية، مؤكداً أن زيارة “حميدتي” لتركيا ستكون لها آثارٌ إيجابيةٌ على علاقات السودان الخارجية.
وقال تيراب لـ(الصيحة)، إنّ هذه الزيارة تكمن أهميتها في اصطحاب “حميدتي” لوزراء الطاقة والتعدين والزراعة والغابات والثروة الحيوانية والتنمية العمرانية والطرق والجسور والنقل، مِمّا يُعزِّز من فُرص التّعاون مع الجانب التركي في هذه المجالات، مبيناً أنّ السودان في حاجةٍ ماسّةٍ لبناء شراكات مع الدول ذات الاقتصادات القوية والتي من بينها تركيا، باعتبار أنّ المرحلة الانتقالية التي يمر بها السودان تحتاج لتقوية هذه الشراكات والاستفادة منها في تنمية ودعم الاقتصاد الوطني، وقال إن الزيارة جاءت بدعوة من الحكومة التركية، وهو ما يُؤكِّد بأنّ الفريق أول محمد حمدان دقلو رقمٌ لا يُستهان به في معادلة السلطة الانتقالية بالسودان.