(1)
محاربة الفنون بكافة أشكالها، ولكن الفن الغنائي كان الأكثر تأثراً بتلك اللوثة التي تغطت بدثار الدين، وحورب الفنانون وقتها بكل حسم، وفتحت أبواب الإذاعة والتلفزيون لشنان ومحمد بخيت وقرشي وغيرهم من مطبلي النظام السابق.. لذلك هاجر معظم المبدعين أصحاب التجارب الجادة والأصيلة.. تلك الهجرات أفرزت لاحقاً تجارب هشة وبدأت تطفو على السطح مسمى (الأغنيات الهابطة) وانهارت الأغنية السودانية حتى أصبحت بملمح جديد هو (الأغنيات الساقطة)..
(2)
ولمحاربة الفن والفنانين، استخدمت الإنقاذ بعض المهوسين لتحارب بهم كافة أشكال الفنون من دراما وغناء وغيره.. وبذهنيتهم القاصرة كانوا يحاربون الدراما على طريقتهم الخاصة، ولعل قصة (الشبك) الذي يغطي الشعر والملابس الكل يتذكرها.. ولعلهم أيضاً أوقفوا بث الأغاني.. وهنا لا بد أن أشير أن هؤلائك المهوسين واتباعهم أوقفوا بث أغنية (العزيزة) بدعوى أنها تدعو للسفور في المقطع الذي يقول:
سلميلنا على ضفايرك
موجة موجة وسلميلنا..
وكان تبريرهم أنها أغنية ضد الحجاب، لأنها اشتملت على كلمة (ضفايرك)، والئك المهووسين لاحقوا حتى (ساق النعامة) وقاموا بتغطيته بشبكتهم الشهيرة..
(3)
تلك كانت هي الذهنية الحاكمة وقتها.. ذهنية تنتمي للعصر الحجري.. ولكن هذه الذهنية بدأت تتغير قليلاً قليلاً حتى توج ذلك التغيير بإنشاء مجلس المهن الموسيقية والمسرحية، ثم لاحقاً تغير المسمى إلى مجلس المهن الموسيقية والتمثيلية باعتبارها كلمة أشمل وأوسع تمكن المجلس من السيطرة أكثر على مجمل الوسط الإبداعي..
وهنا لا بد أن أشير وإحقاقاً للحق أن الأستاذ علي مهدي كان له تأثير واضح في فكرة تكوين هذا المجلس رغم أن البعض يرفض ذلك القول فقط من باب (الكراهية) لعلي مهدي.. ولكنها الحقيقة المطلقة..
(4)
ولا بد أن أشير أن علي مهدي بانحيازه السافر للنظام السابق ساهم في تظليل صورته.. ولكن مع ذلك وضع الرجل أسساً متينة لهذا المجلس وأصبح ذا وضعية واعتبارية لتقنين الوسط الفني وحماية المهنة من التغول عليها وحماية المهنة يعني بالضرورة حماية من يمتهنها..
والمؤسف أن الدولة منحت المجلس تشريعاً ليبسط سيطرته على المشهد الفني ويفرض هيبة الدولة، ولكن المجلس انتحى للمجاملة مع البعض وتعامل بقسوة شديدة كما في حالة الفنان (شهاب الدناقلة) الذي طبقوا عليه القانون بكل عنف بينما تمت مجاملة آخرين في نوع من المحاباة والمجاملة وافتقار لقيم العدالة.
(5)
بدأ الجابري حياته في صدر شبابه بائع خضار بسيط في سوق مدني يلبس العراقي والسروال ويفرش (التبش) على شوال من الخيش.. ولكن تعلقه بالغناء دفعه إلى التقرب من حلقات الطرب والمغنى فتعلم عزف العود ومارس الغناء وكان ذلك سببًا حدوث خلاف بينه وبين والده.. انتقل من قريته إلى أم درمان وبدأ حياته العملية وهو صبي صغير كحرفي في خراطة المسابح والبداية في ذلك الحي العريق حي العرب بأم درمان التقى خلاله مجموعة مهدت له طريق الفن فنهل منها وارتقى درجات السلم بسرعة إلى أن أصبح فناناً مرموقاً يشار له بالبنان فقد تعلم العزف على يد الفنان المعلم أحمد حسن جمعة فردة الثنائي ميرغنى المأمون وأخذ أيضاً من الفنان الكبير التاج مصطفى.
(6)
الجدير بالذكر أن أبن أخت الشاعر عبد الرحمن الريح الذي كان مطرباً فى الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي وتوقف فجأة عن الغناء واسمه علي إبراهيم، إشراقة البشاشة، واشتهر بهذه الأغنية التي ذاع صيتها ولقب بها، وكان لعلي إبراهيم الفضل الأول فى تعليم دروس عزف آلة العود لأحمد الجابري، وساعدته أيضاً إمكانياته الصوتية الهائلة التي حباه الله بها وهي تمتاز بالتفرد والاستثنائية للدرجة التي وصفه فيها أحد كبار الأدباء الروائي الراحل محمود محمد مدني عندما سألته عن رأيه في صوت الجابري فوصف صوته بأنه مثل البسطونة، أي الخيزرانة وهي نوع رفيع من الهراوات التي يعرفها السودانيون وتتميز بالقوة واللدانة وتنثني مثل المطاط، كما تصدر أصواتاً بدرجات متفاوتة حينما تحركها بسرعة في الهواء.
(7)
وهذه هي حنجرة الجابري عميقة القرار، قوية الجواب، وعصية على التكرار والتقليد, الموسيقار محمد الأمين أجاب على سؤال عن أفضل عشرة مطربين فأجاب: الجابريى، أكررها عشر مرات، بدأت مسيرة الجابري الفنية في مطلع الخمسينيات عندما سعى الشاعر الغنائي المعروف ومكتشف النجوم عبد الرحمن الريح لدفعه نحو الإذاعة لإجازة صوته وقد لاقت هذه المساعي الفشل مرتين قبل أن تنجح في المحاولة الثالثة، وقد قال لي عبد الرحمن الريح في هذا الشأن وأنا أزوره بمنزله كعادة أهل الحي الواحد: بعد أن أفصح لي الجابري عن رغبته في الغناء وبعد أن تبينت حلاوة وطلاوة صوته، قمت بتأليف قصيدة أعددتها له إعدادًا موسيقياً، وطلبت منه الذهاب إلى الإذاعة السودانية ليقوم بأدائها أمام اللجنة التي تجيز الأصوات.