قامت ثورة في السودان رفعت شعار (حرية، سلام وعدالة) وهذا الشعار هو القانون الحاكم للثورة والدولة.
معلوم أنّ الدولة تقوم على سلطات ثلاث، تنفيذية وتشريعية وقضائية.. السلطة التنفيذية في حال دولتنا هذه يمثلها مجلس الوزراء وفي بعض الأحايين مجلسا السيادة والوزراء، والسلطة التشريعية يمثلها المجلس التشريعي الذي لم يرَ النور ويقوم مقامه الآن المجلسان مُجتمعيْن، ثم السلطة القضائية وتشمل القضاء والنيابة.
يلاحظ أن المجلس التشريعي معطل منذ قيام الثورة، والقضاء والنيابة معلوم في السودان استقلاليتهما، بل هما مكان احترام السودانيين منذ أبو رنات.
ويلاحظ أن القضاء والنيابة دخلا مرحلة التسييس منذ قيام الثورة، بل قبل ذلك، ولكن في بعض الأحايين فيه حصافة وبدأ التسييس منذ تعيين النائب العام ورئيس القضاء، حيث إن طريقة التعيين خالفت قوانين هذه المؤسسات وان رئيس القضاء لم يأتِ عبر مجلس القضاء وكذلك النائب العام خارج مجلس النيابة. وتدخّل السياسيون في اختيارهما وتعيينهما هذه أولى مرحلة التسييس.
ثم جاءت المرحلة الثانية في الممارسة، وتدخّل السياسيون في أعمالهما، بل بعض الجهات مارست سلطاتها خارج مسؤوليتها في لجان سياسية.
ثم جاءت الطامة الكُبرى بتدخُّل لجنة التمكين في إعفاء القضاة ومستشاري النيابة، مما جعل هذه المؤسسات سياسية وأُبعد عنها الاستقلالية وجعلها تحت رحمة السياسة، وهذه الظاهرة خطيرة من جانب العدالة وتوفيرها، ومن جانب آخر وقف الاستثمار لعدم استقرار القضاء والنيابة والخوف على ماله.
ثانياً القضاء والنيابة مؤسستان مهنيتان وهذا يتطلّب التركيز على القانون وثبات وعدالة إجراءات التقاضي وهذه تطول فيها الإجراءات، ولكن يقود في النهاية إلى العدالة والعدل.
أما إذا أردنا ان نحول الأمر إلى قضاء ثوري تُستعمل فيه الأدوات الثورية وهذه قد تؤدي إلى الحيف والظلم وتهتك شعار الثورة (حرية، سلام وعدالة).
أيضاً يلاحظ أن طريقة إعفاء وتعيين النائب العام ورئيس القضاء شَابَها كثيرٌ من السياسة وخالفت الجانب القانوني والمهني، حيث إنه غيب مجلس القضاء العالي ومجلس النيابة في التعيين والإعفاء وحوّل كل الأمر إلى مجلس السيادة إجرائياً، وكذلك الحرية والتغيير سياسياً، وأعتقد أن هذا الأمر له أثر بالغ في استقلالية هذه الهيئة وجعل مؤسسات العدالة كلها تحت رحمة الأجهزة الأخرى.
ثانياً هذه الإجراءات التي تتم في أجهزة العدالة (قضاء ونيابة) تؤثر على العاملين في هذه الأجهزة وهم قانونيون كبار ورجال قضاء، فحول منهم أعضاء المحكمة العليا وتجعل كل هؤلاء تحت رحمة وسيوف السياسة، بل تؤثر على قرارات هذه المحاكم والنيابة وسير العدالة. ومعلومٌ أنّ ضمير القاضي هو مكان عدله، بل معلومٌ أنّ الحكم عنوان الحقيقة وهذا يتطلب أن لا يكون هنالك أي مؤثرات على القاضي إلا القانون وضميره.
ثالثاً تسييس العدالة أمر مضر بالأجهزة العدلية وفي الرأي العام وحتى في الحياة العامة وحتى لدى المتهمين، وخاصة على القاعدة العدلية (كل متهم بريء حتى تثبت إدانته).
أعتقد أن مصلحة السودان ومصلحة الثورة في استقلال القضاء والنيابة، لأن ذلك مدعاة لإقامة دولة مستقرة عدلياً وقانونياً، واستقلال القضاء يحفظ الحقوق، ويمثل أمام القاضي والنيابة رئيس الدولة ورئيس الوزراء ولا يخاف القاضي على نفسه ولا على معاشه، لأنه ليست هنالك جهة تضغط عليه غير القانون وضميره، كما لو اختفى العدل ستستعمل أدوات أخرى ومنها قانون الغاب واليد.
أعتقد أن الذي يجري الآن في القضاء والنيابة في السودان بالغ الضرر على الدولة قبل الأجهزة العدلية، كما لا يصلح في دولة القانون ويؤدي إلى ذبح العدالة في السودان ويفقد السودان سمعته التي اشتهر بها في العالم، وأن القضاء والنيابة في السودان محل احترام كل العالم، بل القاضي والمستشار القانوني السوداني محل احترام الجميع، ومن مصلحة السودان أن يكون القاضي والمستشار القانوني مهنيين وليسا سياسيين، ومن مصلحة السياسيين أن يكون القاضي والمستشار قانونيين، لأن في ذلك ثباتا للعدالة، لأن الأنظمة متغيرة، اليوم السياسي حاكم، وغداً متهم ومسجون أفضل له عدل مستقل لا يتأثر بالسياسة.
عليه، أعتقد أن استقرار واستقلال الأجهزة العدلية أفضل لأي نظام، لأن الدرب الذي يأتي فيه الشخص راكباً يأتي به راجلاً، كما لماذا غُيِّبت المحكمة الدستورية وهي أرض الأمن القانوني والحقوق.
حافظوا على استقلال القضاء والنيابة أيها السياسيون، لأنكم اليوم حكام وغداً متهمون ومساجين والعاقل من اعتبر بغيره.. (السعيد يشوف في غيره والشقي يشوف في رقبته).