علي مهدي يكتب.. دهاليز.. العلاقات السودانية الأمريكية جهد تعاظم بأدوار الفنون والحوار الإبداعي مبتدأً
كلمات.. صاوير.. على منصات مكتبة الكونغرس الأمريكي تفتح الطريق بين واشنطن والبقعة المباركةً
نزلتها (واشنطن) التي أحب وأعشق بعد أيام طالت لأشهر، كان يمكن أن تمتد لسنوات. ضعتُ فيها بين عاليات المباني، وشهقات الاستعجاب مع الإعجاب، بعد انتهاء حالة الاندهاش، عشقي كان لشوارعها المزدحمة، المزدانة، المبتسمة، أحياناً تضيق وتتسع.
ثم الناس فيها، كلٌّ في ما شغله عن الآخر، فلا تسمع صباح الخير، أو علي التوالي، أين أنت؟
(نيويورك) مدينة مصنوعة على مهل، وبدقة، ومن عندي، بمحبة.
في دهاليز أقدم، حكيت عنها، وعن مدخلي السعيد لها يومها، قبل أكثر من ثلاثة عقود، تزيد ولا تنقص، جئتها وكان لي فيها، مسكن وريف، تظلل بالود والمحبة، وأدركت عندها أمنيتي الخاصة، فغلبني الشوق غلبني، وأضحت عودتي واجباً، ولم تكن على أي من شروط استكمال الواجبات، عامة وخاص. كنت فريد عصري، كما أرى وأحسب وأظن، والظن صائب أحيان وغير ذلك أوقات كثيرة، وصاحب نفسي ومالك قراري.
وبعدها تحقق لي منها الكثير فيها، ومدن أخرى في الغرب الأقصى، ما بينها و(لوس أنجلوس) و(سانت لويس).
وقتها وعمري ذاك، في الأول من اهتمامي، كان اللحاق بفضاء الإبداع بتفاصيل الجديد منه فنزلتها (واشنطن) تسبقني إشارات قصار عن آخر إنتاجات لي، والدنيا مايو، كنّا نحتفي بأعيادها باستعادة الأسباب الموجبة وقتها للتغيير أو الثورة كما تحب أن تقول، في ذاك العيد والعام، يومها أحلت واحداً من أكبر ملاعب كرة القدم (استاد المريخ)، إلى مكان عرض فني كبير، مستخدماً عشرات الآلاف من الشباب كلوحات خلفية، تمشي مع الرقص والحركة، وأصوات مبدعين كبار. نؤدي جميعًا دمجاً بين أبيات لشاعر الثورة، ولوحات في تصميم، جمع بينها عناصر الفرجة داخل المحفل. بعدها بسنوات قلت عنه (التكوين) منهج به تركت عروضي على مسارح (نيويورك) ومدن أخرى بين ساحل وساحل، ومنهج في بناء الصورة داخل المحفل .
بعدها فيها واشنطن، وفي جامعة (هورد) قالوا عنه، هذا علم (الكايقروفي)، التصميم الحركي لفنون الباليه والرقص والعروض التمثيلية الكبرى.
(واشنطن) الكبرى أخذتني أيامي الأولى فيها برفق، وفي تحنان. وذهبت راجلًا بين مركز (كندي) للفنون. أطل على نهر (البوتمك) من عند صالاته الوسيعة، والزجاج مصقول، شفاف، يتيح لك نظراً مرفّهاً، بلا إعاقة أو تشويه لجمال الأشجار الأزاهير، تحاكي مقرن النيلين أو أقرب إليه في الجمال، ثم إذا نظرت ثم أمعنت النظر تشهد المباني الفخمة تلونها الأضواء ليلاً وتحفظ لك وداً إذا راعيتها في الظهيرة.
جئتها وسكنت غير بعيد عنها الجامعة الأهم، مشواري الأول لها بدعوة كريمة من البرفسور (آه) نعم (روبرت هدرا) من الأمريكان الأفارقة، والتعبير من عندي، موسيقى، مؤلف، مجدد، يصنع مقطوعات من موجة الأصوات من الطبيعة، بلا آلات موسيقية تقليدية أو حديثة، يجمعها بين طرق على حجارة بأحجام مغايرة، كل واحدٍ يعطي صوتاً موحياً، ومن ماء يسقط على ألواح خشبية، ومن عصافير تغني بلا اتحاد، فتخرج أصواتها بلا تعبير تفهم منه معنى الاتحاد، لكنها تترك تأثيراتها الغالبة على الفضاء، فتفرح لها أو غير ذلك .
ثم جلست لأسابيع مع فريق الراقصين، إحدى عشرة فنانة في حُسن كما بنات ياجوج، ولا ماجوج، نتدارس كل صباح تصاويري من عرضي الكبير، وأشرح وأعيد، أحياناً بلا سؤال، من جمال النظرة، أفترض الأسئلة. ثم راجعنا سويًا، صور بديعة لرقصات أخرى من نواحي الوطن، بعضها كنت حاضرًا ومشاركاً، وغيرها شاهدًا على أوقات الحدوث، والبهجة هناك تحت الجبل بلا حدود. من جمال طلابي، أو قل الشركاء الجدد في الفصل المشروع، الراقصون كانوا يمشون بيننا في القاعة الفسيحة، واحدة من أجمل قاعات الجامعة لفصول التشخيص والرقص الحديث والمعاصر والباليه. القاعة كانت طرفًا أصيلاً في أن تمضي أيامي فيها بيسر، ونحقق معاً في ختام المشروع الإبداعي الأول لي في (أمريكا) عرضًا فنيًا جمع بين فنون الأداء الأحدث، والتقليدية، تزينها رقصة (العروس). وكانوا أجمل في الأداء مثل ما تخيلتها، عروس من شارع فسيح في مدينتي الأحب (ودنوباوي)، أو حي السيد المكي، أو عند آخر بيوت حي الشجرة (محوبيك أو غردون)، تضيء بجمالها السباتة وتمشي على الساحة، وتغني لها الحسان، تغرد .
( سوحي الليلا لا بالجنبة موعي الليلا لا سوحي)
لا ترجمة مني لها الأغنية لكنها من أغنيات البنات كما نقول ضجت بها قاعات جامعة (هورد) وبعض من مناحيها واشنطن الكبري.
ذاك تاريخها الزيارة الأولى، وكانت تفتح لي أبوابها بعدها، مرحبة بعروضي التمثيلية، أو ورش الأداء والتدريب في جامعاتها، أو مراكزها الثقافية، في مدنها الممتدة من ساحل لآخر، أين تقف أنت منه الساحل. وفعلاً في ظل تلك التعقيدات الظاهرة، كانت مبادراتنا بعض من مفاتيح ما أغلق بفضلها السياسة، وتوحش الخصومة، وأشياء أخرى حمياني.
يومها علمت وكالة الاتصال الأمريكية ICA تتبع يومها لوزارة الخارجية وأظنها كذلك أيضاً يومنا هذا، وتابعت زيارتي وكنت قد زرت إذاعة صوت أمريكا وأجريت مقابلة طيبة ثم قامت بإعداد تقرير مكتوب وتحقيق صحفي أعدته صحفية ظلت ترافقني في كل برنامجي، نشرته الوكالةICA ، وكان المركز الثقافي الأمريكي يفتح على شارع القصر، حيث الموسيقى والأفلام والمكتبة، وزع المركز في الخرطوم تقريراً عن زيارتي تلك، ولم تكن رسمية، لكنها تحولت في (واشنطن) لمنافع متبادلة. هكذا ومن البداية، أفهم العلاقات بين الشعوب، ثم الحكومات بينها ما بينها.
فذاك أظن صادقاً وفي أصعب الأوقات تبادلنا معها (أمريكا) البرامج والزيارات منذ يونيو 1978.
فهل أسهم ذلك في ما نحن الآن فيه من حسن الجوار المديد هذا؟
بعدها بعقود يوم جئتها أستجيب لدعوة من إدارة مكتبة (الكونغرس الأمريكي) قبل سنوات، وقد مشينا الطريق البعيد بيننا مراراً وتكراراً بالفنون والإبداع.
نظّم القسم العربي والشرق الأوسط بالمكتبة بدعم من الصديق العالم المصري الأمريكي تادرس سمعان الزيارة، وكان قبلها بيننا في واحدة من دورات مهرجان البقعة الدولي للمسرح، زار الإذاعة، وتوافق معهم على التعاون والتبادل. وتزدان الآن المكتبة المسموعة في مكتبة (الكونغرس) بمواد تحفظها، وتلك من آيات التعاون الثقافي والفني، رغم تباعد العلاقات السياسية وقتها. هنا أرجوك أن تتأمل فتأمل.
المحاضرة مع الترويج لها وكنت أعوّل كثيراً على نجاعة العناوين.
( تاثير التصوّف على المسرح المعاصر )
استخدمت في حواري المفتوح بعدها، تصاوير من عروضنا في دارفور الكبرى، ومدن في الوطن، للفرجة الأشهر (سلمان الزغراد سيد سنار)، والفرجة الأخرى والتي استقبلها مسرح (لماما) في (نيويورك) (بوتقة سنار).
قال بعدها الصديق والمخرج الكبير(بيتر بروك )، إنها خارج خارج (بردوي)، وهو تعبير للتفريق بينها عروض مسارح (بردوي ) الأفخم .
التصاوير كانت جزءاً بعدها من عملي مع جامعة (جورج تاون) في محاضرات أو ورش، ثم يوم دخلت أكبر مؤسسة لتمويل المشاريع الإبداعية في أمريكا
تلك حكاية أخرى لدهاليز تسعدني أن تعيد فتح سيرة أدوار الفنون في تعزيز العلاقات بين الشعوب والبلدان، في أوقات التخاصم.
كل عام وأنتم بخير. الخميس غاب الدهليز الأعياد فيها فرص اللقيا لكنها الجائحة سلمتوا.