على غير عادته يخرج نزار قباني الشاعر العربي الكبير عن عزلته المجيدة ومقاطعته الراسخة والعنيدة والعنيفة؛ وترفعه عن مدح الرجال؛ فهو يحتذي حذو ونهج أستاذه الكبير عمر بن أبي ربيعة الذي يفتخر بأنه لم يمدح الرجال قط أحياء وأمواتاً، وها هو نزار يلتزم نهجه ويقول مباهياً: أنا لم أتورط يوماً بمدح ذكور القبيلة ولست أدين لهم بالولاء ولكنني شاعر تفرغ خمسين عاماً لمدح النساء!
بيد أن قباني يكسر عزلته المجيدة هذه المرة، ويكتب قصيدة يمدح فيها رجلاً ولكنه أي رجل إنه عميد الأدب العربي الراحل الدكتور طه حسين الأديب الكبير، وان لم يمدح أو يرثي نزار طه حسين فمن يبكي ومن يرثى!؟
وتعتبر قصيدة نزار قباني الموسومة بـ(ارم نظارتيك فما أنت أعمى)، فريدة من فرائد اللغة العربية وخريدة من خريدات بنت عدنان؛ رثى فيها نزار بقوة وبكى الأمة العربية والإسلامية بحسرة كبيرة، وانتقد واقعها المرير اليوم.
ألقى قباني هذه القصيدة في إحدى قاعات جامعة الدول العربية في عام ١٩٧٣م، بيد أنه كأنما كتبها اليوم؛ فما أشبه الليلة بالبارحة والأمس باليوم؟!
ويستهل نزار قباني قصيدته الأيقونة بأسئلة باهرة واستفهامات شاخصة تفيد التأكيد قائلاً: ضوءعينينك أم هما نجمتان!؟
كلهم لا يرى وأنت تراني
ضوءعينينك أم حوز المرايا
أم هما طائران يحترقان؟!
فنزار يتساءل هل هذا الباهر الساطع ضوء عينينك يا طه حسين أم هما نجمتان ساطعتان تبددان ظلمة الليل العربي وظلام الأمة العربية الحالك السواد؟!
وكلهم عميان لا يرون وأنت وحدك يا طه حسين ترى بعين البصيرة وجع وحزن وداء الأمة العربية والإسلامية ونحن كلنا عميان رغم أننا مبصرون!
أم هذا هو ضوء عينيك أم المرايا التي تكشف عري وهوان أمتنا!؟ أم هما طائران يحترقان ويفنيان لينيران لنا الطريق المظلم ويسطعان بأضواء باهرة وثاقبة مثل الشمس في رابعة النهار؟!
ونلاحظ أن نزار قباني قد أرسى بقصيدته هذه فناً وأدباً جديدًا في طرائق الرثاء؛ فهو قد جافى المراثي التقليدية التي تبدأ بالبكاء والعويل ولطم الخدود وشق الجيوب وتتحول فيه القصيدة إلى عزاء و(بيت بكاء) كبير؛ فنزار يسمو ويترفع عن النهج العقيم في أدب الرثاء؛ ويبتدع لوناً جديداً في المراثي يمكن أن نسميه الرثاء السياسي؛ حيث يتخذ الشاعر المرثية منصة يطلق منها قاذفات اللهب وقذائف النقد الحارقة والقاتلة والمدمرة لحكام العرب، يتضح ذلك جلياً في كلمات وأبيات هذا القصيدة المتوشحة بالحزن الكبير.
ونجد أن قباني قد شبّه عيني طه حسين الوقادتين بالنجمتين، وذلك جرياً على سنة التشبيه والاستعارة والمجاز واستخدام فنون البديع والتصوير البياني وفن الرسم والتصوير بالكلمات؛ ثم شبه عيني طه حسين بحوز المرايا والطائرين المحترقين؛ وهو كما قلنا جرياً على سنة التشبيهات الساطعة!
ثم يقر نزار الحقيقة الكبرى، ويطلب من طه حسين أن يرمي نظارتيه المتوشحتين بالسواد والتي يخفى وراءهما عينيه العمياوين ويقول له ارم نظارتيك فأنت لست أعمى بل نحن جوقة العميان؛ أنت المبصر الوحيد ونحن العميان، فأنت ترى بقلبك المرهف وإحساسك الصادق ونحن بلا إحساس، جامدون باردون؛ ماتت فينا الأنفة والعزة والرجولة والكبرياء وكل الأحاسيس الحارة والحرة:
ارم نظارتيك ما أنت أعمى
بل نحن جوقة العميان
ويمضي قباني في وصف طه حسين بأنه سارق نار الحق ويرى ببصيرته الثاقبة ما لا يراه الآخرون المبصرون العَمايا؛ ويصف طه حسين بأنه كاسر حدود الزمان والمكان بإبداعه الذي سبق به معاصريه ومجايليه بآلاف السنوات الضوئية :
أيها الأزهري يا سارق النار
ويا كاسرا حدود الثواني
ثم يطلب نزار من عميد الأدب العربي الراحل طه حسين أن يعود إلى الأمة العربية والمسلمة ويخرج من قبره؛ فهو من عصر ذهبي وعصرنا نحن عصر حجري وعصر الكهوف والقرون الوسطى والجهل والظلام، سقط فيه الفكر في سوق النفاق السياسي وأصبح الأديب مثل لاعب وبهلوان السيرك؛ سكب ماء وجهه من أجل حفنة ملاليم؛ وأصبح الكتاب مثل الخرفان :
عد إلينا فإن عصرك عصر ذهبي
ونحن عصرنا ثاني
سقط الفكر في النفاق السياسي
وصار الأديب كالبهلوان
عد إلينا يا سيدي
عد إلينا
وانتشلنا من قبضة الطوقان
أيها الغاضب الكبير تأمل
كيف صار الكتاب كالخرفان
إن أقسى الأشياء للنفس ظلماً
قلم في يد الجبان الجبان
ويرسم قباني صورة كئيبة للواقع العربي اليوم فالعرب قد اتبعوا الشهوات والملاهي والملذات وبنوا القصور الشامخات وتنكروا لقضية الأمة العربية؛ والساسه جوعوا وحرموا شعوبهم من قطرة الماء وسكبوه على شفاه وأقدام الجواري والغواني وأصبح البترول والنفط أهم من الإنسان والمواطن العربي الفقير والمفقر والمعدم :
إنني في خفي الحسين
بقايا من سورة الرحمن
تستبد بي الأحزان فأنادي
اه يا مصر من بني قحطان
حبسوا الماء عن شفاه اليتامى
وأراقوه في شفاه الغواني
يشترون القصور هل من شار
لدموع الأطفال في بيسان
يشترون الدنيا
وأهل بلادي
ينكشون التراب كالديدان
لمن الأحمر المراق بسيناء
يحاكي شقائق النعمان!؟
يا هوان الهوان هل أصبح النفط
لدينا أغلى من الإنسان!؟
ثم يهاجم نزار قباني الحكام العرب الغارقين في النعم والمجوعين شعوبهم؛ والتاركين الأرض والعرض نهبا وغنيمة لجحافل الأعداء؛ ونزار يصرخ فيهم ويحثهم للدفاع عن الأرض والعرض؛ ويقول لهم نوموا أيها الحكام فقد ردت شعوبكم عنكم الجحافل وقامت بدوركم المنوط بكم القيام به :
أيها الغارقون في نعم الله
ونعمى المربربات الحسان
قد رددنا جحافل الروم عنكم
ورددنا كسرئ أنوشروان
ويُصلي نزار ظهور الحكام العرب بسياط اللوم والتقريع ويقول لهم إن شعبوكم تصدت وقامت بدوركم في حماية العقيدة والدفاع عن حياض الإسلام؛ في الوقت الذي تدسون فيه وتخفون السلاح والسيوف؛ فادفعوا جزية السيوف التي تريد فرساناً شجعاناً ورجالاً أقوياء لا جبناء رعاديد :
وحمينا محمداً وعليا
وحفظنا كرامة القرآن
فادفعوا جزية السيوف عليكم
لا تعيش السيوف بالإحسان!
نجد أن نزار قباني في هذه القصيدة كما أشرنا آنفاً، قد جاء بضرب جديد في المراثي العربية، فهو اتخذ المرثية باباً للولوج إلى هموم وقضايا الأمة العربية والمسلمة؛ التي حملها فوق ظهره وترجمها في أشعاره؛ ولم تكن المرثية ضرباً من البكاء والعويل بل هي كوة يطل من خلالها على أوجاع وأحزان الأمة العربية والمسلمة.
كما حفلت القصيدة بالكثير من ألوان البلاغة والبديع والتشبيهات والاستعارات والمجازات والكنايات مثل تشبيهه للشعوب العربية بالديدان التي تنقب في الحفر من أجل فتات الطعام؛ وتشبيهه لجيوش الأعداء اليوم بجيوش الروم وكسرى أنو شروان، كناية عن تجدد العداوة من قبل أعداء الأمة الَذين يتربصون بها الدوائر منذ القدم وإلى اليوم وحتى تقوم الساعة؛ وكذلك تجسيمه وتجسيده للفكر وإلباسه ثوب المحسوسات وجعله شيئاً يرى بالعين المجردة، وكذلك تشبيهه للكتاب المتسولين والمنكسرين على أبواب وعتبات الملوك؛ بالخرفان والنعاج؛ وغيرها من ألوان البديع وشاهق البيان التي نثرها شاعرنا الكبير في هذه القصيدة الرائعة التي تصور واقع الأمة العربية اليوم رغم أنها كتبت قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، لكن ما أشبه الليلة بالبارحة!