تَعرّضت قبل أكثر من عام عام لهبوط حاد في دقات القلب حتى تدحرج النبض لـ18 دقة بدلاً من المعدل الطبيعي المتعارف عليه بـ72. كانت أسباب هذا التدحرج غامضة للطبيب الكندي الذي أحيا قلبي من جديد بتركيب الـ pacemaker المرفودة بساعة اليد التي تحصي دقات القلب باصاخة بندولها ولله الحمد.
لم يكن الطبيب يعرف أنني زرت صديق العمر بدر الدين حسن علي برفقة زوجتي في دار العجزة والمسنين بتورنتو. كانت هنيهات داوية قاتلة وفعّالة لما تريد، فدمرت ضمن ما خربت كهرباء قلبي الذي يعمل الآن (بجنريتر) منذ العام الماضي!!
كانت هيئة بدر الدين وهو يتحرّك بالكرسي سبباً مُباشراً في كل ما أصابني بعد مُغادرتي دار العجزة بساعاتٍ، فمنها توجّهت مُباشرةً لطوارئ القلب تماماً مثل (من الاسكلا وحلا) .
بدر الدين حسن علي، عليه الرحمات بمقدار ما تسع الرحمة، كان واحداً من رموز التنوير المسرحي والدرامي في بلادنا قبل عشرات السنين. جاداً ومثقفاً وأستاذاً للدراما والنقد المسرحي في معهد الموسيقى والمسرح قبل أن (يلم فيهو بونا ملوال) أيام مايو فيفصله ضمن كشة كبيرة شملت هاشم صديق وأنس الحاج وفتح الرحمن محجوب ومحجوب عباس وكمال حسن بخيت ومحمود محمد مدني وصديق محيسي والشنبلي وثلة أخرى من (ضوايات البلد).
منذ أواخر السبعينيات هاجر بدر الدين لدولة الكويت، وهناك طَابَ له كل شيءٍ، عمل مخرجاً بتلفزيون الكويت وتزوّج الراحلة حورية حاكم زميلته في تلفزيون الكويت، ونشط في المعارضة التي اتّخذت من صحيفة “الوطن الكويتية” منبراً حيوياً وثرّاً، وظل هناك إلى أن غزاه صدام فلاذ بالقاهرة، وهناك تلقى أكبر فجائعه برحيل حورية بغتة وهي تجهز لسهرة من سهرات صفاء أبو السعود في تلفزيون ART ، حيث كانا يعملان سوياً، وكنت أعمل معهما كمعد برامج قبل هجرتي لكندا.
ظللت ألح على بدر الدين للهجرة لكندا حتى استجاب في مطلع الألفية وانخرط معنا في الثلج وشجن المنفى وكل ما تسببه الدموع المحبوسة والجيشان الفائض، ولأنه حلو تكاثر عليه السكر وانقبض قلبه وخشنت ركبته وظل يتدهور عاماً تلو العام إلى أن هجع في دار العجزة بلا رفيق يرى ما به فيكتئب، فالناس هناك في حفظ الشتاء الطويل.
رحل بدر الدين في دار الثلج ودُفن هناك وليس له من حطام الدنيا إلا بنته الواحدة.
اللهم أرحمه بقدر تلك النوايا الخيِّرة التي ظل يرنوها، فقد كان وطناً يحب الجميع، ويهفو فؤاده للسودان وللمسرح وأيامه النواضر.