محمد محمد خير يكتب.. سُبُل كسب العيش بالصمود!
في تلك الأيام التي مضت راسمة زمناً صار الآن يسمونه (الزمن الجميل)، كانت أقصى درجات الأماني أن يكون لك (بيت وعربية) كان ذلك هو البهاء الأتم، والشأو الذي لا يبلغه إلا ذو الحظ العظيم، كانت الدنيا غير ضنك هذي الأيام الماحلة المنزوعة من دسم المودّة وكانت الأخوَّة بين الناس أبرز ملمح تراه عياناً.
مع مرور الزمن وقسوته صار اليوم البهاء الأتم هو أن يكون لك (بيت وعربية وعمود) لا أقصد عمود الكهرباء أو إناء الطعام أقصد (العمود الصحفي) الذي تحوّل من أداة تثقيف لمحصول نقدي سريع العائد.
قبل الدخول في تفاصيل ذلك، يجدر القول إنّ كاتب العمود الصحفي يجب أن يستند في المقام الأول على تجربة جديرة، وعلى رؤى راجحة، وعلى أدوات في الكتابة لها صلة عَميقة بفنون كتابة النص؛ وفوق ذلك يجب عليه أن يكون مُثقّفاً، ولأنّ الثقافة (خشوم بيوت) أعني بها هنا أنّها ليست تلك المعرفة العامة، أو التلقي الأكاديمي المُجرّد من أفق التنوير؛ إنّها الاستناد إلى الصلابة المعرفية الركينة فلسفةً واجتماعاً وفنوناً وأدباً وسعةً سياسيةً، وتتطلّب تلك، الانتجاع المخلص للكتاب وإجالة النظر في المعارف المُحيطة.
كاتب العمود (جراب رأي) ومُوجّهٌ للرأي العام ومُنفعلٌ بحركته وصعوده وهبوطه ومجراه العميق، وهو (قبلة) الجهاز التنفيذي وليس من يبتزه بالمُخاشنات والتلويح بمُستنداتٍ (مضروبةٍ). كاتب العمود هو من تحتل العبرة في عباراته حصتها الوضاءة بما يصبغ عليه صفة فارس الرأي وليس فارس الأنانيات الهوجاء الذي يسعى بهزال الزاد وضعف البضاعة وبؤس السعاية.
وكاتب العمود قيمة أخلاقية مُضافة للقيم الحارسة للمُجتمع وليس (رباطاً) يتأبّط شراً ويبارز طواحين الهواء، هو الذي يُروِّج لفكرة حتى تنقعد لفكرته جواهر الإضافة، هو من يبسط الفكرة وليس من (يفرش) الكلمات على القوارع ليتصيّد (ظرفاً) من مسؤولٍ مُرتجفٍ.
حكى لنا السر قدور طرفة حول الراحل محمد مكي رئيس تحرير صحيفة (الناس)، فقد لاحظ أنّ أحد مُحرِّريه مهتمٌّ بالسفير الهندي وقتذاك، وصدف أن أقرّت الحكومة زيادات في المرتبات ألزمت بها القطاع الخاص، وجرت تسميتها (ببند الهندي)، فقد اجترح الشريف حسين الهندي هذا الكادر وقتذاك، فنادى محمد مكي المحرر وقال له: (عايز زيادة الشريف ولا أسيب ليك السفير الهندي)! هذا النشاط قديمٌ لكنه تجدّد الآن، واكتسب حيوية وعنفواناً وأصبح هنالك كُتّاب (يفرشون) في صحف كثيرة يُمجِّدون والياً حتى تقتنع بأنه والي دجلة والفرات والأهواز، ثم يجهزون عليه في اليوم التالي مُباشرةً، فأيهما تختار مديح الأمس أم تقريع اليوم؟!!
مثل هذه الكتابة مكشوفة وعارية ولا تنفذ عبر أيِّ مسامٍ ولا تخص إلا الكاتب والمسؤول لا تمتد للناس، ولا تُؤثِّر في الذوق، هي مثل (حلاوة قطن) تذوب قبل أن تعرف أنها حلوى!!
ميزة هؤلاء الكُتّاب أنّهم يستعصمون بالجهل، فهُم جهلاء في كل شيءٍ، ولن يبارحوا هذه المحطة إطلاقاً، لأنّ من ميزات الجهل إزالة ضوء المعارف، فالجهل قحَّام.