الأنيق رغم بساطة مظهره والوديع بصورة تلفت الأنظار.. رمضان حسن.. وما زالت (الزهورُ) صاحية (1)
كتب: عبد الله محمد
(1)
كان ذلك المساءُ صافياً ومعتدلاً، غابت شمسُ الخرطوم وئيدةً وأتاحت لنا بعضاً من شفق نراه عبر شارع الحرية وقد أضفى على بيوت الحلة الجديدة شيئاً من الغموض الذي كان يزداد مع توغّلها في طقوس مغيبها الأبدية. ولجتُ ذلك البيت برفقة خالي إبراهيم صالح الذي كان يُعرف عادةً بكنيته، خالها (وتنطق خالا). لم يطرق خالا الباب بل صاح بصوت عال: يا أستاذ. ثم دفع الباب برفق ودعاني للدخول.
(2)
حال دخولنا كان باستقبالنا الأستاذُ، فى أناقة بادية وابتسامة وضيئة، وبينما كان مضيفُنا منشغلاً بالترحيب بنا كنت أجيل بصري في المكان الذي كان نظيفاً بدرجة مدهشة محاولاً فهم الرموز التي حفلت بها الملاءاتُ التي تم تطريزُها بإتقان. لم يفُت على مضيفنا ما كنت عليه من استغراق وقال: بالمناسبة يا أبوخليل الطقم ده من زمن العرس، متذكر؟ المدام قررت تفرشه لما قلت ليها إنك جايب معاك ود اختك. انتبهت عندها إلى أن الملاءا ت وأكياس المخدات الأربعة، والفوط التى كانت على الترابيز الصغيرة وتلك المنضدة الكبرى التي توسطت الموقع، كانت تحملُ نفس الزخارف وأشكال العصافير التي تحلّقت حول زهرة كانت تتجاذبُها بمناقيرها الملونة بينما كانت أجنحتُها ترفرفُ فى أوضاع مجافية لقانون الجاذبية.
(3)
جيء بعصير الليمون وتلاه الشاي عاطراً ترنُّ أكوابُه على صينية لامعة (وهذا مما كان يرمز إليه صديقُنا خالدُ الذكر المسيح – أحمد مكي الفحيل – بالنغم المُحبّب). تأمل مضيفُنا ما اصطفَّ من (بسكويت كرم) على طبق بيضاوي الشكل، ثم قال: والله يا أبوخليل المدام كانت دايرة تخبز ليكم لكن الظروف ما ساعدتها . انهمكنا فى رشف الشاي وأنا في عجب من أمر هذا الإنسان الذي بدأ ممتناً لزيارتنا له، بينما حقيقة الأمر نقيض ذلك، فيما يليني على أقل تقدير.
(4)
كان الفنان رمضان حسن أنيقاً رغم بساطة مظهره و وديعاً بصورة تلفت الأنظار. كان الغرضُ من زيارتي أن أسأله عن حقيقة أمر أغنيته (افتتان) تلك التي تُعرف عادةً بمطلعها الشهير (الزهور صاحية وانت نايم)، وكان قد دار على الصحافة الفنية لغطٌ حول ما إذا كانت تلك الأغنية من كلمات عبد الرحمن الريح الذي سُجّلت باسمه فى الإذاعة مؤِلفاً وملحناً، أو من تأليف الشاعر الناصر قريب الله الذي يقول مناصروه إنه قام بتأليفها ولكنه لم يكن يرغب في ارتباط اسمه بالغناء، إذ كان سليل أسرة من المتصوفة. كنت وقتها محرراً متعاوناً في مجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح فكلفني رئيس تحريرها الأستاذ عبد الله جلّاب بتحرّي صحة الأمر.
(5)
سألتُ الخال إبراهيم صالح إن كان بمقدوره أن يرتب لي لقاءً مع صديقه الفنان رمضان حسن فوعدني بالسعي لتحقيق رغبتي بعد أن أوضحت له غرض الزيارة، وفي يوم تال اصطحبني الخال إلى حيث يقيم الأستاذ رمضان حسن.. خلال تلك الزيارة أكّد لي رمضان أنه قد تلقى أغنية افتتان من الشاعرعبد الرحمن الريح (صُرة في خيط)، تعبيراً عن اكتمالها شعراً ولحناً.
(6)
وأضاف أن الأغنية قد أعدها عبد الرحمن الريح ليؤديها الفنان إبراهيم إدريس لكنه سافر إلى خارج العاصمة فكانت من نصيبه هو!! وقال إنه ولفرط إعجابه بتلك الأغنية، أطلق اسمها على كريمته افتتان، تلك الفتاة الوديعة التي جاءت برفقة شقيقها إلى معهد الموسيقى والمسرح بعد أعوام من يومنا ذاك، لحضور ندوة أقيمت احتفاءً بحياة والدها و تقديراً لفنّه، بعد أسابيع من وفاته. كانت تلك الندوةُ بمبادرة من الأستاذ الموسيقار جمعة جابرالذي أضاءها بوفرة معارفه وسحر حديثه، وازدانت بحضور الفنان محجوب عثمان، رفيق رمضان حسن.
(7) ورمضان حسن الذي اعتُمد فناناً بالإذاعة خلال إضراب الفناين الشهير، مطلع الخمسينات، شأنه في ذلك شأن الفنان محجوب عثمان، امتاز بصوت عال النقاء ودقة في الأداء. ولرمضان من الأغنيات ما ظل في ذاكرة المستمعين إلى يومنا هذا، سواءً بصوته أو بصوت من رددوا أغنياته مثل (الأمان الأمان) التي تغنى بها الفنان مصطفى سيد أحمد، (أنا سلمتو قلبي) التي غناها الفنان محمد الأمين، (يا حبّي الرزين) التي تغنى بها الفنان عبد المنعم الخالدي، و(يا غرامي الأول).
(8)
وغيرها مما ردده السابقون واللاحقون، ذلك غيضٌ من فيض أبدع رمضان فى أدائه وأفلح . وقد غنّى رمضان لمعظم شعراء الأغنية آنذاك بدءاً بعبد الرحمن الريح ومروراً بمحمد دسوقي وعتيق وعوض جبريل، وتناول في مسيرته شتي المواضيع، العاطفي منها والاجتماعي و الوطني. وكثيراً ما ذكر الأصدقاءُ من الجمهوريين أن الأستاذ محمود محمد طه قد كتب يوماً خاطرةً فى إحدى الصحف أثنى فيها على الفنان رمضان حسن وعلى أغنيته (الجمال والحب في بلادي)، مأخوذاً بجمال اللحن والمحتوى وبالصوت الشجي.