علي مهدي يكتب.. دهاليز
أحبائي
طوال ثلاثة عقود تزيد ولا تنقص إلا قليلاً، ما انقطعت عنها مدن الإمارات، بتعدد أشكال الحياة فيها، وتنوع المشاهد في نواحيها.
صرت أقرب الى بعضها كثيرًا، وإن غبت عنها لأوقات قصار، لكني أعود أمشي فيها، وكأني واحد من أهلها، أبسط يديّ بالعمل المجيد، وتعود لي منشرحة بالنتائج.
وأمضيت فيها أوقات قدمتني على الكثيرين، ولم تسألني برغم فرص السؤال المتاحة عن غياب هنا وهناك. ثم نظرت من عندها لمعاني كانت تشغلني وتمشي في دروبها مع الفهم الصائب، كيف يكون للفكر والثقافة والفنون تلك التأثيرات لتعيد من ترتيب أولويات السياسات؟
وكيف تتحول الدولة الحديثة، من كونها طرفاً في منطقة تجلس فيها على زوايا، بينها وبينها الأحلام؟ وتظل تحلم وتحلم حتى تغدو سيدة حلمها، وتعمل على إحداث التغييرات الكبرى في المنطقة، وتمتد عبر قدراتها الأحدث أياديها بخيرها الماتع، وتبني في خرائط جديدة. لا السياسة تحدد مساحاتها، لكن (دبلوماسية الإنسانية) التي تبني اتجاهات أفضل لمعاني الإخوة والصداقة والفرص المتاحة الممكنة .
ولقد عرفت يوم وقفت في مدينة (أبوظبي) مستجيبًا لدعوة كريمة للمشاركة في أيام كُرّست لاستذكار أدوار وإسهامات الأب المؤسس عليه الرحمة ولة المغفرة الشيخ زايد آل نهيان قدس الله سُرَّة، على مدى التقدير للفكرة الإنسانية الخلاقة في الأسباب الموجبة وقتها لبناء دولة الأمارات العربية المتحدة، في ما اجتمعت علية الأطراف المشاركة وقتها في أول لقاء جمعنا بعد رحيله للرحمة الواسعة. بيننا من عمل معه لسنوات، ومن التقى به واستمع إليه، وزاد على ذلك من حاور الشيخ الأب المؤسس، وكنت من هؤلاء السعداء بالاستماع إلى صوته مباشرة كما نقول (من فمك إلى أذني)، الحاضرين يومها باتساع تنوعها الأطياف المشاركة، جاءوا من كل فج بعيد، تختلف السحنات والأفكار والمشارب، لكنها تتفق في حضور تعزّزت فيه المحبة للراحل المقيم.
كنا نمثّل وقتها أطياف العمل الفكري والثقافي والإعلامي والتربوي والعلمي الإقليمي والأممي، نشكّل جِماع تجارب متنوعة متعددة متباينة، نظرنا بتقدير ملهم لأسباب حضورنا، واستجابتنا لدعوة كريمة للمشاركة في لقاء امتد لأيام، من صاحب السمو الشيخ عبد الله بن زايد وزير الثقافة والإعلام وقتها، نراجع ونحكي عن شيخ ترك تأثيرًا بالغ – وإن رحل – على مشهد السياسات العربية والمنطقة، وصنع دولة تمتد بين شواطئها المدائن الأحدث، لا تفرقها الصحارى، بل أصبح بعضها مدائن ومراعي ومصانع وبيوت ومدارس ومسارح، وفنون عمارة، تقول ها أنا هنا حاضرة، تبني من رملي، وتزرع فيني، فأخضر وأخضر، وتزدان عصافيري .
كلما قطعت الطريق بين (دبي) في اتجاه (الفجيرة)، أو منها نحو (العين) البهية بأهلها والترحاب عندهم إشارة وتاج، أحلم بها المسافة، كيف كانت قبلها؟ وأجيب من عندي، ومن فرحة ألّمت بي. كانت كما كانت، واُريد لها أن تعمر بالخير، ليذهب الى مناطق بعيدة بعيدة جدأ، لتدق الأيادي على أبواب أكثر ما تتوقع في نهارات رمضان، وحر يسكن الفضاء بين مدينة وأخرى، لا تتوقع إلا نسمة تعين على الصبر والصيام، ويمتلئ البيت بالخيرات. وتلك حكاية (دبلوماسية الخير) والتمني.
جئنا (أبوظبي) وفي الخاطر وقتها قبل سنوات، أننا طرفًا من هذا التغيير الإقليمي والعالمي، نشكل خطوطاً تمشي هنا وهناك، تتباعد حينًا وتقترب كل الأوقات، ما دامت تتكئ على فكرة المستنير،
وأنظر نكتب الآن عنه عليه الرحمة ولة المغفرة والقبول، وبعد تلك السنوات عنها (الدبلوماسية الإنسانية)، وعندي فيها معاني كُثرت تأويلاً، لكنها وفي حواراتنا المتصلة مع سعادة الأخ الحبيب السفير حمد الجنيبي، تكتشف كم هي التقاليد تمشي بدون تردد مع الأحدث في الأفكار، وتنتقل الفكرة مع بنيان جديد، لتروّج لآراء تحدث عنها التعاون البنّاء، والعمل المشترك، وبناء التفاهمات. ثم تمضي أكثر في بحثها عن فرص التقارب الثنائي بين البلدان .
لقاء (أبوظبي) ذاك مضت به السنوات، لكنه أسس لفرص بعدها استُثمِرت، لتصبح المدينة وغيرها مركزاً لتبادل الأفكار النافعة وامتداداتها، كنا يومها وقد قبلنا الدعوة فريقاً متعدد التخصصات، ومن الدول العربية، الأهم نحن من السودان، كنا كلنا في صحبة معالي الوزير البروفيسور علي شمو حفظه الرحمن، ومنذ أن التقينا في قاعة كبار الزوار في مطار (الخرطوم) ووصولنا واستقبالنا في مطار(أبوظبي)، ونحن كلنا أصبحنا من ساعتها وفداً مرافقاً لمعاليه، حباً وكرامة، وإيماناً بعطائه الممتد، خاصة في اتجاهات حيث نذهب، ضم وفدنا لتلك الأيام السعيدة، الحبيب الموسيقار والشاعر والمغني الكبير عبد الكريم الكابلي، والشاعر والأديب مصطفى سند. واللقاء الدولي ذاك في (أبوظبي) جاء إليه مبدعو الأمة العربية، هجرة سعيدة، كمّلت معاني الوفاء لقائد ومجدّد.
واللقاء الذي أستعيد تفاصيله وتضيء حكاياته دهاليز الخميس، كان له ما بعده، لكنني كنت سعيداً باطلاعي بعدها بكثير على تفاصيل الإعداد والتحضير له، والفكرة خلف المبادرة، وهذا التنوع الكبير في المشاركين، ثم تركيز وسائط الإعلام كلها بتنوعها مرئي ومسموع ومكتوب، والوسائط الأحدث وقتها تفتح لها مكانة، استُثمِرت كلها بترتيب، لتؤسس بعدها لدبلوماسية تقوم على هذا البناء الرائع في خدمة تقديم الدولة، باتساعها العالم أدنى وأقصى.
في تلك الأيام أدرنا حوارات مباشرةً، نستذكر فيها سيرة الأب المؤسس الراحل المقيم الشيخ زايد آل نهيان قدس الله سُرَّه. وانزاحت كتل المعارف تقرّب المسافات. وانظر معي أكتب من هنا عنها تلك السنوات، تعينني بحضورها رغم السنوات البعيدة القديمة، وما يدفع فكرتي لما أسميه (الدبلوماسية الإنسانية) عندي هي الأحدث، كما غنينا قبلها بمعاني دبلوماسية الفكر والثقافة والفنون الإماراتية.
ويومها وقفت في مدخل معهد العالم العربي في مدينة النور (باريس) نشهد عرضًا للفنون التقليدية والغناء الشعبي الأصيل من دولة الأمارات، في أول نشاط عربي كبير تنظمه دولة عربية شريك في تأسيس المعهد، في قلبها عاصمة مبادرة خلاقة لهيئة الفجيرة للثقافة والإعلام في (باريس) النور، والفكرة ذاتها فيها الريادة، وظلت المؤسسة الكبرى تلعب أدواراً تتعاظم الآن، وتحتل أجمل المواقع على طرف نهر (السين)، وغير بعيد عن جامعة (باريس) ثمانية، كانت صورته البهية تزيّن القاعة الكبرى، ومشينا تحتها نفتح في الحديث القديم المتجدد، وظللتُ ألمح الصورة، وأسمع الصوت الرنّان، كلما غشيت ملتقى، أو أدرت حوارًا أنشد به بحث وسائط التجديد في العلاقات بين البلدان. كلها تتمايز وفقاً للمقاصد، لكنها في تجلياتها إنسانية مؤثرة، لحدود لا تصل آخرها ابداً. ورمضان كريم، وأيامنا هذه يدفع فينا بالخير الوفير، وتسمع الدعوات، وأنتظر بلا تردد واردات المعروف، تطوف بلدان وبلدان .
في الذي أعرف أن طائرات تبادلت المطارات، ما تهبط حتى تقلع ثانية لتهبط، وهكذا سير خير وفير، وأمتعتُ بصري بها مناظر تسر، وكلها صناديق أحسنوا ترتيبها، أسمح للكتابة هنا أن تتغزل في التنظيم والإعداد، والسيدة الفضلى أم الأمارات سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك، وفي الذي أعلم واثق في معلوماتي، تتابع بلا ملل. كم بلد ومدائن وصلت إليه المعينات؟ لصوم طاهر مبارك. بل إنها ترصد، كم صندوق أُحسِن تنظيمه لتصل المحتويات مرتبة منظمة؟ وكأنها فقط لهذا البيت، وتلك الأسرة وحدها، لا لملايين شرقاً وغرباً وجنوبًا وشمالًا، في اتجاهات المعمورة، ذهبت كلها مشاركة لطيفة، واللطف مني سعي وبحث عن تعبير يقترب من حسن المبادرة الخلاقة نفسها، لا هي المرة الأولى، ولن تكون آخرها. الرغبة الملحة في أن تصل في وقتها، بدون تأخير، مرتبة وجامعة للاحتياجات الأساسية. أنظر للمحتويات من معينات الطعام، مدروسة تتشابه مع ما اعتاد عليه أهل البلد والمنطقة، هذا جهد وإعداد سبق.
وتلك أيات (الدبلوماسية الإنسانية) وحواراتي تتعدد مع الحبيب السفير حمد الجنيبي في الخرطوم، رغم اعتذار منه يتكرر كلما دخلت أكثر في التفاصيل، وتابعت لا في وصولها المعينات للمطار، جسر يربط الخير بالخير، لكن الأدق في التنظيم، هو الخطط والبرامج المسبقة، في الحرص على إعداد مسارات التوزيع العادل، والتأكد من أنها وصلت لكل ما يحتاجها، وتعينه في أيام رمضان الطيبات وتلك آيات المعارف وإخلاص النوايا. وحظيت برحمته أن استمعت لحوارات تلت وصولها المعينات لمن يحتاجها، والأعمال بالنيات، وصاحبة المبادرة الكريمة والخلاقة أم الأمارات صاحبة السمو الشيخة فاطمة بنت مبارك تقبّل الرحمن منها، تتابع التفاصيل حرصًا على اكتمال القبول من عنده تعالى، ولتكون نيتها وصلت لمن يحتاجها. ولما كانت مقاصد الدهليز البعيد، هو السعي القديم المتجدد، لتثبيت فكرتي عن مفاهيم أخرى للدبلوماسية، فكرة وأداء ونتائج. أنظر في ما فعلته (الدبلوماسية الإنسانية) والمبادرات من عندها الامارات متعددة، لكن التأثير الأكبر، في اتصال العون، وتكريس الأوقات، كل الأوقات لمساعدة الناس، كل الناس، من كل الأجناس. دون نظر لتفاصيل أخرى، غير أنهم أكثر حوجة ويستحقون.
لمّا غادرت مجموعات من عند سفارة دولة الأمارات العربية المتحدة بالخرطوم، في كل الاتجاهات والأماكن الممكنة، تعطي بلا حدود، في هذه الأيام المفترجة من خيرات البرنامج الدائم والراتب والمكثف أكثر في الشهر المبارك رمضان الكريم. كان صديقي سعادة السفير حمد الجنيبي يقود فريقاً يضم أسرته وبعض مساعديه، وفي المسافة بين الجزيرة والخرطوم وفي القرى الممتدة وقفوا، وكانوا سعداء بنتائج ذاك اليوم في حره الشديد . وكان حظي الطيب بعدها وأنا في طريق العودة، بوقفة أمام بيت قديم في البنيان، جديد في المشاعر، وعطرها الفواح ضمّني، وقبلت بلا تردد. الباب قصير، سمح لي بالدخول، ترحاب سيدة فضلى، أمي قد تكون، أو مثل جدتي ممكن. تقف مستقيمة، والبسمة وضاحة، (الشلوخ) على الخدين أقمار تضيء تنافس ضوء النهار، وانحنيت أقبل يدها، قوية، ورائحة وآثار دخان صنع الطعام تعين على طول النهار. ترحابها ما معه إلا أن تستجيب وتدخل وتجلس وتسمع وتسعد وتفرح .
وفي صوتها قرار أنك فاطر عندها وفي الوقت مسافة للوصول لبيتنا لكن لا فكاك .
وجلّستني والسؤال عندها كان حاضر لاحظت أن أمامها صناديق موضوعة بعناية
سألتها عن الحال والأحوال؟
قالت
(نحمد الله على النعمة نحن في خير) ثم نظرت إلى الصندوق الضخم أمامها مبتسمة
(هسة عليك الله يا سيدي ست فاطمة دي بتعرفني من وين لمن ترسل لي قدر ده؟
والله صدق القال ربنا يرزق النملة في جحره، صدق، لكن منو القايل ست فاطنة تذكرني أنا خادم الله بت التوم وتصلني في راكوبتي، والله دي نعم كبيرة خلاص،
دحين يا سيدي الجماعة الجوني ديل عياله؟ سمحين قوليهم خادم الله قالت ليكم قولوا لي ست فاطنة كتر خيرك وبارك الله فيك
إن شاء الله يجيك في صحتك وعافيتك وعيالك، الرسول كان ما كلمتهم بي كلامي ده، أنا مشيت أدي الشول بت الحسين لقيت عندها تحمد الله، وزعوا ليها، قالوا يا سيدي راكبين عربات، لحقوا الناس في الزراعة. هي لكن ده خير سمح، مقبولة منها، ربنا يديها الفي مراده، بركة الله ورسول الله وجدودك
قول أمين).
تمتمتُ من فرحي، وتمثلتُ الدعوات، وقلت أنقلها للحبيب سعادة السفير، وإن أضعت بعض من الأجر بسرد الحكاية، لكنها وصية من سيدة لم يزرها أحد، ولا تعرف عنها الدبلوماسية شيئًا، لكنها حملتني رسالة وأنا أضعها بين يديك، والأجر من عنده تعالى لمن أحسن عملا.
وقفت لأصل أهلي، وتركت لها وصية بعض أهلها والدنيا قبايل عيد، قالت والفرح يحيط المكان والزمان، يعبر بي إلى مدينة (ابوظبي)، وكأن رسالتها وصلت بقدرته تعالى الرحمن الرحيم، والرحمة ما بين تلك المدينة ومدن وقرى وصلتها معينات حياة تفتح أبواب الرحمة والخير
و(الدبلوماسية الإنسانية) تجمع ولا تفرق وتُعطي بلا حدود أمين