القانوني أحمد هرون والي ولاية شمال كردفان الأسبق في العهد البائد، يستنجد بالمحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت في حقه مذكرة اعتقال على خلفية تهم بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب، شكك في نزاهة القضاء الانتقالي وطالب بتحويل ملف قضيته لهذه المحكمة الدولية، هل جاء طلب هارون خوفاً من المصير المشؤوم الذي اختتمت به حياة الزبير أحمد الحسن؟، أم أنه طامع في نعومة الأداء العدلي الدولي ونادم على عدم تسليمه لنفسه للعدالة العالمية باكراً كما فعل كوشيب؟ الحقيقة أن الوضع الإنساني الذي تمتع به كوشيب في لاهاي يفوق الحال البائس لرفاقه القابعين بالسجون السودانية بدرجات قياس فلكية، وكلنا سمع شكوى والي الخرطوم الأسبق لقاضي المحكمة من عدم ملاءمة دورات المياه بمكان احتجازهم للشروط الصحيّة، وربما لعبت المعاناة النفسية الضاغطة على سجناء النظام البائد دوراً محفّزاً لأن يعلن أحمد هارون عن هذه الاستغاثة المطالبة بالذهاب لمحاكم (الكفار) بعد أن يئس من القضاء الانتقالي، ومن المحتمل أن تكون قرارات لجنة إزالة التمكين المقيلة لعدد من القضاة التابعين للنظام المقبور، قد قذفت بالرعب في نفس هارون وشركائه المتهمين الآخرين.
بعد إزاحة المتشددين البائدين عن مسرح السلطة وسلطة القرار، بدأت تتكشف العورات وتتعرّى المواقف المنافقة لبعضهم، وواحدة من أوراق التوت المزاحة عن سوءاتهم هي طلب هذا الإنقاذي النافذ بإلحاق قضيته بمحكمة (الكفار)، وهي نفس المحكمة التي رفض الانصياع لها حينما كانت الدنيا تدين له بالطاعة، الآن وبعد بلوغ السيل الزبى ثارت ثائرة هؤلاء البائدين وأخذوا يغازلون (الخواجات) الذين كال لهم وزير المالية كيلاً ثقيلاً بمكيال التشدد الديني بمنبر مسجد صوفي عتيق، لقد أبدت لنا الأيام الحاضرة ما كان خافياً من ازدواجية معايير هؤلاء المغردين بكلمات الدين الحنيف، لقد ملأ هارون الدنيا ضجيجاً فجال جولة وصال صولة تحاكي مشية الأسد، وعلى رؤوس الأشهاد أمر جنده بالقضاء على أسرى الحرب الذين كانوا يجدون من رسول الرحمة الأمان بعد استسلامهم، ومن هذا المنبر أقترح على قضاء الانتقال وإدارة سجن كوبر أن تقدم جرعة تأديبية صباحية لكل سجين بمقدار الأذى النفسي الذي أوقعه بضحاياه، فتوجه لوجه هارون لكمة من لكمات كلماته المتعنجهة الموثّقة (اكسح امسح ما تجيبو حي)، ويؤمر نافع غير النافع بأن (يلحس كوعه) عند كل صباح يوم جديد.
البدايات الهزيلة لمحاكمة سدنة نظام الدكتاتور أصابت الكثيرين بالإحباط، لكنها ما لبثت أن أثلجت صدور قوم مقهورين وقتما أمّن إيدام على أقواله بعد أن تلاها الضابط المتحري ممثل الشرطة، حينها عرف الناس حكمة واضع سيناريو محاكمة البائدين (الشهيد علي محمود حسنين)، عندما جعل الأولوية للبدء بجريمة انقلابهم على السلطة الشرعية، وعلم المتهمون قبل المشاهدين أن هذا المسلسل لا ينتهي ببطل يكبر ويهلل ويرفع سبّابته بالنصر في الحلقة الأخيرة، بل سيموت جميع الممثلين الذين سبقهم الى دار البقاء المخرج وكاتب السيناريو ذات نفسه، على متابعي هذه التراجيديا أن يتوقعوا (جقلبة) آخرين من إخوة هارون، فأمس ذهب الشريف أحمد عمر بدر واليوم الزبير أحمد الحسن وإنّ غداً لناظره قريب، فيبدو أن اللاعبين الجدد داخل حلبة الصراع الجديد ليسوا بغباء البائدين، أولئك المتأسلمين المجاهرين بقتل النفس رمياً بالرصاص الجائر تحت شمس ظهيرة الشهر الفضيل، لذلك علت أصوات الأسود المصنوعة من الورق وزادت صرخات النمور الكرتونية حينما أحسّت بأن أجلها قد يأتيها وهي مكبّلة داخل أقفاصها بسجن كوبر، فصرخات هارون يجب أن لا تُقرأ بمعزل عن هذه السياقات التحليلية المرتبطة بحيثيات حالات الوفاة التي حدثت داخل السجن.
هل جاء الطلب الذي تقدم به هذا الانقاذي الكبير بتنسيق بينه وبين سجناء الدرب؟، أم أن القرار فردي متعلق بتقديرات الرجل كقراءة مهنية من قانوني يرى بين الخلل ما لا يستطيع رؤيته الآخرون؟، لو كان الأمر تقديراً ذاتياً فهنالك احتمال أن يعلن قريباً عن أن المتهم قد قضى وذهب الى محكمة العدالة الإلهية، أما إن كان الأمر قد تم بتدبير ليلي وترتيب تنظيمي مجمع عليه من الإخوة رفقاء السجن، فذلك يعني أن المساعد شرطة بالاحتياطي المركزي علي محمد علي عبد الرحمن (كوشيب) يتمتع بنظرة ثاقبة وإدراك حصيف لمآلات لم يدركها أساطين القانون بالنظام البائد، وعطفاً على هذه المقارنة المقتضبة يلاحظ أن العسكريين أصحاب الدرجات الأكاديمية الدنيا في منظومة الدكتاتور، كانوا الأحسن تصرفاً عندما أزفت ساعة انهيار الامبراطورية، على الرغم من حملات الإعلام الاجتماعي المتناولة لهم بالقدح والذم والتجريح، والاستخفاف والوصم بأنهم ليسوا سوى رعاع قدموا من خلاء المرعى وجهلاء وثبوا إلى قمة الهرم من أتون عتمات الجهل والأمية.