قدرات خارقة:
أن توثق للأغنية السودانية ذلك يتطلب قدراً كبيراً من القدرات الذهنية الخارقة.. والأستاذ الراحل علي مصطفى الشهير بالدكشنري.. كان واحد من أجمل الذين يوثقون للأغنية السودانية في كافة مناحيها وتفاصيلها.. وهو رجل مدهش بحق وحقيقة.. وهو كان صاحب (كمبيوترية) يستحق أن نقف عنده بالتأمل والتفكر.. وشخصياً أجد نفسي في كل التفاصيل المثيرة التي تكتنف حياة هذا الرجل المبدع.. وهذه مجرد محاولة للتمعن في حياته وتفاصيله الخافية.
صاحب الشلوخ:
على مصطفى (الدكشنري) من نواحي تمبول مشلّخ حرف تي كابيتال – من الشلوخ النادرة- تعرف على مصطفى في بداية حياته على الفنان بادي رحمه الله (مشلخ سلم) وعمل معه شيالًا لحوالي ثلاثين عامًا, زاملهما في هذه الرحلة الفنان علي العربي (مشلّخ سلم). الجدير بالذكر أن السودانيين في ذلك العهد كانوا يذهبون إلى الحروب مصطحبين فنانيهم وعازفيهم وعدتهم كاملة, فكنت تسمع عن مرافقة عائشة الفلاتية للجيش المتوجه لمحاربة اليهود ومرافقة أحمد المصطفى لجيوش السودان المتوجهة إلى ليبيا.(هلا هلا زمن الحرب بفنانها).
نجم علي مصطفى:
ظهر نجم علي مصطفى عقب رحيل الفنان بادي محمد الطيب وكانت أول إطلالة تلفزيونية لعلي مصطفى في سهرة قدمها الإذاعي/ صلاح طه (مشلخ سلم) في تلك السهرة ظهر الدكشنري لأول مرة وعرف جماهيرياً.. كان الدكشنري طوال تلك السهرة مشغولًا بجر أكمام جلبابه وتعديل عمامته وهندامه ولا يكاد أحد يبدأ الحديث عن أغنية من أغاني الحقيبة حتى ينبري الدكشنري متبرعاً بالإفادة بأن الأغنية إياها تم تأليفها في عام 1923 وأنه يعرف منزل الفتاة التي تم تأليف تلك الأغنية بسببها, وأنه قامت بتسجيلها شركة بيضة فون وصاحب مؤديها كورساً كل من عطا كوكو وحماد ود شندي (كلاهما غير مشلّخ إطلاقاً).
الدكشنري:
يُلقب الأستاذ علي مصطفى رائد فن الحقيبة والعضو المؤثر باتحاد الغناء الشعبي، بدكشنري أو قاموس الحقيبة، نسبة لمعرفته التامة بكل شعراء الحقيبة ولحفظه عددا ضخماً جداً من الأشعار ومناسبات القصائد، وأصبح نجمًا يشار إليه بالبنان في منتديات العاصمة، وصار مرجعًا للقنوات الفضائية والإذاعات، حيث يقدم إفادات تاريخية نادرة مصحوبة باللحن والغناء، فهو فنان يشكل ثنائية مع الفنان خلف الله عبد الله قاقرين باسم «ثنائى أم در».
تردي الساحة الفنية:
التردي المريع الذي تشهده الساحة الفنية وفي كافة مناحيها هو أكبر دليل على تفسير الرغبة الجامحة في الحنين للماضي.. أصبحنا لا نتطلع للمستقبل لأنه يبدو قاتماً ولا يبشر بومضة أمل.. لذلك من البديهي تجدنا نشتاق للماضي بكل تفاصيله حتى ولو كانت مؤلمة لأنها بكل تأكيد أجمل من بعض الأيام الآتية.. ذلك ليس إحساسي وحدي ولكنه شعور الناس أجمعين.. وما تشهد الساحة الغنائية من عقم واضح يؤكد بجلاء محنتنا الراهنة.. وليس أدل من ذلك ما ظل يصرح به المدعو (أمجد حمزة) الذي تؤكد أغنياته أنه واحد من الذين نشروا الغناء الذي ينتمي للفراغ العريض.. وهو يخرج للناس أغنيات أقرب للسموم التي تصعب مكافحتها.. في ذلك الزمن الجميل الذي كان خالياً من أمثال أمجد حمزة كان الغناء يمشي بين الفنانين على طريقة (تهادوا تحابوا)..
أغنية مشتاقين:
لن يفوت على ذاكرتنا الجمعية أغنية (مشتاقين) التي صاغها شعراً الشاعر الراحل إسماعيل حسن وقام بتلحينها الموسيقار محمد وردي الذي قال بأن الأغنية تشبه الفنان الواعد حينها (عثمان مصطفى) فلم يتوان في أن يقدمها له كهدية حتى تكون دافعاً ليصبح رقماً صحيحاً في الغناء السوداني.. فكانت أغنية مشتاقين بكل جمالها من حيث المفردة واللحن دافعاً لعثمان مصطفى الذي أصبح فيما بعد فناناً كبيراً حتى أن الموسيقار المصري العظيم وصف صوته بأنه صوت شاسع كالصحراء وعميق كالبحر.
نماذج مختلفة:
الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي هو الآخر قدم للراحل عبد العزيز محمد داؤد أغنية (يا زاهية) والتي تعتبر من أجمل ما تغنى به أبوداؤد.. الكابلي أيضاً أهدى أبوعركي البخيت من كلماته وألحانه أغنية (جبل مرة) .. وأبوعركي كان محظوظاً وهو يظفر بأغنية ثمينة من ألحان محمد الأمين هي أغنية (طريق الماضي).. محمد وردي لم يتوقف عند أغنية (مشتاقين) لعثمان مصطفى، بل قام بتلحين أغنية (أيامك) وأهداها للفنان الكبير صلاح بن البادية وهي تعتبر من الأغنيات الكبار في مسيرة صلاح بن البادية.. وود البادية نفسه قدم للفنان الأمين عبد الغفار أغنية (حب الناس يحبوك) فكانت أغنية واضحة وذات تأثير في مسيرة الأمين عبد الغفار ودفعت به للصفوف الأمامية من المطربين الكبار.