بعث لها صلاح أحمد إبراهيم قصيدة الطير المهاجر.. حكاية مريّا مارينو الكساندرو والصحفي الراحل!!
يرويها – وجدي الكردي
(1)
كانت الدنيا جُمعة شاتية، ويتيمةُ شهرٍ أطول من ليل العاشقين. مع آخر خيوط الشمس التي توارت إلى حضن الأفق الدافئ، هبط البرد مثل جيش من النمل الجائع لينهش الوجوه والعيون، وأمنيات الأماسي العارية.
هاتفني صاحبي عوض محمد أحمد – حيّا قبره الغمام. قال:
– “يا وجدي تعال سريع في بحري، لقيت ليك كنز”.
– زي شنو يعني؟
– لقيت ليك مريا، مُلهمة صلاح أحمد إبراهيم!
– عوض انت جنيّت؟ أيه اللّي بيجيب مريّا الطليانية في بحري، قامت بعاتي يعني؟
ولمّا كان صاحبي عوض زولاً مُسلّطاً. كثير الدواهي والأحابيل، خبيراً بالأخبية والأقبية وزقاقات بحري الضيقة ويعرف الدنيا والعالمين، قلت: “ومالو، نمشي”.
(2)
أدرت رقبة سيارتي من زقاق (الرأي العام) ردّ الله غربتها، وتوجّهت إليه. تتبّعت وصفه (المجوبك) حتى عبرت تخوم ميدان عقرب، ووجدت نفسي قبالة باب من الزنك المتقشّر. صفعت الشموس الطلاء المتراكم عليه جيلاً فوق جيل.
لم أكن بحاجة لأطرق الباب، فقد كنت أطول منه بكثير. اقترابي منه، كان كافياً ليصطادني شاب في العشرينيّات من عُمره، أسرع مزيحاً ستار الزنك القصير عن بقية جسدي. قال: “مش انت اللّي منتظرو عوض؟ قاعد جوّة مع ماما”.
في طريقنا إلى حيث ماما، قال الشاب: “أنا أسبيرو جمال فؤاد، ولد الحاجّة مريّا”.
يا تُرى بأية عين سأتفحّصك يا حاجّة مريّا الطليانية، يا بت بحري؟
تُرى من تكون ماما، يا أسبيرو؟!
في صالة واسعة، وجدت صاحبي عوض يجلس مع سيدة خمسينيّة، تشير بقايا الحفريات والأطلال التي على وجهها، بأن ثمّة جمال صارخٍ كان هنا قبل أن يترك الفقر توقيعه عليها بخط رديء.
(3)
– “الزولة دي بتقول إنها مريّا، اللّي كتب فيها صلاح أحمد إبراهيم القصيدة الشهيرة:
“يا مريّا/ ليت لي أزميل فدياسٍ وروحاً عبقرية/ وأمامي تلّ مرمر/ لنحتّ الفتنة الهوجاء في نفس مقاييسك/ تمثالاً مُكبّر/ وجعلت الشعر كالشلالِ/ بعضٌ يلزم الكتف وبعضٌ يتبعثر”.
عوض انت جادي؟
قلتها في سري، وأعدت فحص السيدة بعيون أخرى استللتها من قاع ذاكرتي التي تعرف الكثير عن سيرة مريا الأصل (زولة صلاح). عيون نجيضة، غير عينيّ الدُقاقتين اللّتين لا أثق فيهما البتة في مثل هذه المنعطفات.
(4)
– يا عوض انت مستهبل. أين تلّ المرمر يا عوض؟!
قالت السيدة: “أنا مريا مارينو الكساندرو. أنا التي كتب فيها صلاح قصيدته. أنا التي بعث لها الطير المهاجر”.
حوّلت بصري سريعاً إلى صاحبي عوض. كان وجهه مُلطخاً بابتسامة لا تعرف مصدرها. يفرك على يديه كمن ينفخ على نار عراكٍ يوشك أن يندلع. فهمت بأنه يستحثني على استجواب السيدة، مُتنصلاً عن مزاعمها، مُتبرئًا عن (تلتلتي) والدنيا برد.
حين أعدت رأسي إلى عنقي، وجدت السيدة مريا مارينو الكساندرو تغنّي: “ليتني في قمّة الأولمب جالس/ وحواليّ العرائس/ وأنا في ذروة الإلهام بين المُلهمات”.
(5)
يا إلهي!
أية مريّا هذه التي تجلس بين (جلحات) وجدي وعوض وترنُو إلى جبل الأولمب؟!
قالت مريا: “كان ما مصدّقني، أسأل جورج”.
– مين جورج دا؟
– أخوي الكبير.
كان جورج مستلقٍ على سريره في ممر مُشرفٍ على الصالة التي نجلس فيها. يهذي بجرحٍ غائرٍ نخر ساقه من أثر السكري اللّئيم. جُرحٌ غائرٌ بامتداد تاريخ آل الكساندرو في السودان. لذا، لم أستطع أن انتزع من جورج الجريح، جملة مفيدة.
ما الذي حلّ بك بعدها يا جورج؟ مضت (15) سنة على هذه الحكاية. عساك طيّب.
(6)
قال الراوي: “وصل ألكساندرو شيريقوتس من مالطا إلى السودان، بالتزامن مع خطة كتشنر العشرية لإعادة بناء الخرطوم. أنشأ ألكساندرو أول شركة تأمين في البلاد العام 1920، ومات في هوجة ثورة أكتوبر 1964 بعد أن أنجب الولدين (مارينو) و(أسبيرو) من زوجته الطليانية (إيجيسيا)، وماتت بدورها العام 1986.
تزوّج مارينو في العام 1944 من السيدة جانيت جورج سلمون نمير. أمها اثيوبية ووالدها لبناني، خلطة عجيبة. أنجب منها: جورج، جوزيف، ألبرت، ألكساندرا، ماريو، أسبيرو ومحدثتنا مريّا وشقيقتيها سيلفيا وروزانا.
(7)
مات أسبيرو مارينو بحادث سير في (صينية بُرّي) العام 1975، وكان معه في ذات السيارة، روبرت وليم أسكندر، لكنه نجا.
هل تذكرون روبرت وليم أسكندر؟.. أسلم قبل (34) عاماً في محكمة بحري الشرعية، وأفتاه القاضي بجواز احتفاظه باسمه، ربما ليكون أول روبرت في الإسلام! كان ينوي الترشّح لرئاسة الجمهورية. وقد لا يزيده التعريف كسباً على كسبه العلمي والمهني والمجتمعي، بأن أقول: إنه والد المطربة مونيكا روبرت!
(8)
من عجائب آل ألكساندرو، أنّ (ماريو)، شقيق السيدة مريّا، سمّى نفسه محمد شريف بعد أن أشهر إسلامه وتزوج سيدة من موريشص. حين سألت مريّا كيف تقبّلت أسرتها المسيحية الملتزمة الأمر. قال شقيقه جوزيف، الأخ الأكبر لمريّا: “أخونا محمد شريف ده زول عسل”.
وافقته مريّا واستلت هاتفها العتيق من غمده، واتصلت بشقيقها محمد شريف. أخبرته بمهمتي، وتركته يتحدث معي. رحّب بي محمد شريف (ماريو سابقاً)، موافقاً أن أكتب عن سيرة أسرته.
(9)
ها أنذا أكتب بعضها، مع علمي بأن مريا الأصل، لم تعتب السودان، لا مع كتشنر ولا صلاح ولا صاحبي عوض.
أمّا بعد..
مبحث (المُلهمة)، مسألة معقدة. طالما الشاعر – أي شاعر – يصنع قصيدته وأنثاه ومُلهمته وجمهوره، فمن حق الأنثى – أي أنثى – أن تصنع شاعرها.
كذلك فعلت مريّا مارينو ألكساندرو!
قال صدقي كبلّو: “لو مريا مارينو الكساندرو دي في بداية الخمسينيات، طيّب صلاح كتب القصيدة متين؟ أنا شفت القصيدة أول مرّة العام 1963، يعني مريا مارينو كان عمرها بين 7 و10 سنوات؟ كيف تكون المُلهمة؟ عجبي!”.