رجلٌ حصيفٌ من الجنوبيين، في جوبا، قبل الاستفتاء بعام واحدٍ، قال لي “اتفاقيةُ نيفاشا هي اتفاقيّة للانفصال، صُمّمتْ لذلك، فلماذا تنبحُ الحكومة حول خيار الوحدة، وتدّعي العمل على جعلها جاذبة؟”. ضمن ما يشقُّ قلبَ المرء، في موكبٍ من مواكب ثورة ديسمبر، في شارع الأربعين كانَ شابٌ لطيف يسألُ فتاةً تضعُ اللثام، فلا يبينُ إلّا عيناها، جبينُها وبعضُ خصلٍ طائشات، عن لماذا خرجتْ هي – تحديداً – في هذا الموكب. كان صوتُها مشروخاً “عشان دي الحكومة الجوّعت النّاس، وعملتْ حاجات كعبة، فصلتْ لينا بلدنا وقسّمتنا ودايرة تفرتق السّودان”. حديثها سيفٌ يشقُّ قلب الرّجل الصّلد. لم تعرفِ الفتاة الجنوب، هذا طبيعيٌّ، وقد مضى على ذهابه عشرة أعوام، إلّا قليلاً، حينها. لكنَّ حزناً عميقاً في صوتها وصراعاً يجعلانك توقنُ أنَّ الحكومة تلك فعلتْ شيئاً قبيحاً جدّاً. وبالنّسبةِ لي – شخصيّاً – فإنَّ حكومةً تخرجُ ضدَّها كلُّ أولئك الصبايا الجميلات، ونساء بحري الرّيّانات، لهي حكومة حمقاء يجبُ أنْ تذهبَ فوراً.
الرّجلُ الجنوبيّ الحصيف سبق واطّلعَ على غيب نيفاشا الذي هو شهودٌ لكلّ ذي عقل. جيشان، بنكٌ واحد بنافذتين، دستوران، حكومتان، شعبان.. ماذا تبقّى من السُّودان الوحد لتقدلَ حكومة الإنقاذ ملوّحةً بالوحدة الجاذبة؟ دعونا نؤسّس – يقول الجنوبي الحصيف – لجوارٍ حَسَنٍ، بلا أحقاد. على السطح تطفو قصّة الأحقاد التي إمّا أنْ تكون الحكومة الانتقالية واعيةً لها تماماً، مثلما كانتِ الإنقاذ تعي بأنَّ الجنوب سيذهب وفقاً لنيفاشا، أو تكون غير واعية، ومستغفلة أو غافلة، وهو ما سيجعلها أقلَّ جرما من الإنقاذ، ويخفّف عنها النّهضة إلى مسؤولية هي ليست أهلاً لها، حسنُ النوايا.
فقد بدا واضحاً أنَّ الإسلاميين دخلوا في الفصل الثاني من المسرحيّة العبثيّة للسياسة في السُّودان. وهو أمرٌ متوقّع. طالتْ نشوةُ الانتقالية أو قصرتْ، فإنَّ الإسلاميين سيأتون. ليس كمؤتمر وطني أو شعبيّ. ربّما عبرهما، ولكنْ سيأتون في أشكال عديدة، وهم المهَرَةُ في التزيّؤ بالمختلف من الأزياء على طول التاريخ السياسي السُّودانيّ، والأكثر تنظيماً، والأعرف في التعامل مع الأزمات. وأيّ تقليلٍ من شأنهم، فقط لأنَّ حكومتهم سقطتْ، هو جهلٌ فادحٌ بموازين القوى. ولم تكنْ أحاديث ياسر عرمان ومنّاوي بضرورة استيعابهم – الوطنيين منهم والصّالحين على الأقلّ – إلّا لأنَّ الرّجلين يعرفان اللعبة السياسيّة. حتّى أطروحة د. الشّفيع خضر، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السُّودانيّ، المفصول، يجبُ أنْ تُقرأ من هذه الزّاوية.
بدأت تحرّكات الإفطارات الرّمضانيّة. سيتمُّ اعتقالُ ستين شخصاً، وفقاً لإزالة التّمكين، أو مائتين. سيخرجون وستبدأ الموجاتُ الأخرى متتالية من حراك الإسلاميين. سيجسّون الوضع، متحسّسين مواضع القوّة والضّعف لدى خصومٍ كانوا يعاركونهم طوال ثلاثين عاماً. وستبدأ الانتقالية متسارعة الخطى لإرضاء الواقفين خلفها: أمريكا، إسرائيل، الإمارات، وربّما السّعودية. مصر ليستْ واردةً ههنا، لأسباب فنيّة بحتة. تعديلات القوانين، تعيينات المطلوبين في المواقع المهمّة، إعلان الانحيازات الإقليميّة والدّولية اللازمة، تأجيلُ ما هو مطلوب من الثوّار وتهدئة نفوسهم، تشكيل جهاز الأمن الدّاخليّ، وهو الأهمّ في المرحلة القادمة، لأنَّ اللعب سيصبح خشناً قليلاً.
كلُّ المطلوبات التي تسرّعُ الانتقاليّة خطواتها هي نيفاشا الجديدة. وذلك لأنَّ ثمّة مشروعاً لن يمرَّ مرورَ الكرام يتوجّبُ حمايته. وحين يكونُ الإسلاميون قد نظّموا خطواتهم، سيكونُ على أجهزةٍ أعتى من لجنة صلاح منّاع أنْ تتعاملَ معهم، وهو ما سينقلنا إلى الفصل المهم من المواجهات التي غالباً ما تكون دامية. لا سيّما في وجود استقطابات حادّة على أصعدةٍ أخرى، دارفور، المشهد التشاديّ الجديد، الجبهة الشّرقيّة، والأزمات الاقتصاديّة الخانقة. الملعب تتمُّ تهيئته للعبة كبرى، ستضطرُّ فتاة موكب الأربعين تلك، ذات الخصلات المتطايرة، معه، أنْ تذرف دمعتين، وتوقد شمعتين.