عبد الحفيظ مريود يكتب.. حليمة صاحبة الحلّة
يتطايرُ الشّررُ في دولة تشاد القريبة. يؤثّرُ – سلباً أو إيجاباً – على دارفور، فتطفو الأحداث في الجنينة يومين أو أكثر، على وسائل التواصل، ثمَّ تنقمعُ، إلى حيثُ يجب أو تكون. فليس هذا وقتُ الجنينة بأيّ حالٍ من الأحوال. للنّاس هنا، في الحواضر، مشاغلها. المهتمون قليلاً قد يفكّرون في أصل المشكلة. لكنْ حين يتقدّمُ الواحدُ قليلاً، سيجد الكثير من التعقيدات التي تحتاج شرحاً مطوّلاً، فيضطرّ لتغيير صورة البروفايل “الجنينة تنزف”، ويريح رأسه من الكلام الفاضي.
النّزاع في تشاد ليس بعيداً عن التعقيد في الجنينة وغيرها من المناطق المشابهة. تتقاطع الدّولة والقبيلة. فتنفجر الأوضاع مخلّفةً ضحايا أكثر في كلّ مرّةٍ، دون أنْ تتوصّل إلى حلِّ. تأريخيّاً قدّمتْ حكومة الإنقاذ دعمها لإدريس ديبي ليقوم بانقلابه لتصل قبيلة الزّغاوة والبديّات (أبناء عمومة) إلى حكم تشاد، في أعقاب صراعٍ طويل بين القرعان والودّاي (البرقو)، لتبدأ – بعد عشرين عاماً على استلام السّلطة – مرارات الآخرين من استبداد الزّغاوة. وثمّة المجموعات العربيّة التي تشكّل هامشاً كبيراً غير جدير بالحكم، نظراً لمؤهّلاته وشبكة علاقاته. تقومُ الهبّة تلوَ الأخرى ضدَّ إدريس ديبي والزّغاوة، وتخبو. لكنْ ليس هناك من تغيير جوهريّ. فالذي حدث أشبه ما يكون بشعور التغراي في إثيوبيا، عقب نجاح الإطاحة بنظام منقستو، وتولّي ابنهم ملس زيناوي، بأنّهم أصحاب الحقّ التاريخي، ولا ينبغي لأحدٍ أنْ يفكّر في الحكم، إذا كان خارج التغراي. وهو الشعور الذي لازم الزّغاوة في تشاد. لا يجوز الحديث عن حكم في تشاد خارج قبيلة الزّغاوة. في مرحلةٍ ما، تمَّ تقريب المجموعات العربيّة واسترضائها. لكنَّ ذلك وحده ليس كافياً.
في الجنينة، بدأ التعامل فعليّاً مع المصطلح الجديد “المستوطنون الجُدُد”. ثمّة شعور متنامٍ وسط أصحاب الحواكير بأنَّ هناك خطىً حثيثة لاستحداث واقعٍ “عربيّ” جديد. فغرب دارفور ليست من الولايات المحكومة عربيّاً. لا تشكّلُ المجموعات هذه ثقلاً يُغيِّر الموازين، وما ينبغي لها، كما تفعلُ في جنوب دارفور أو شرقها، إذْ لا ينازعها أحدٌ هناك. لكنَّ سنواتِ الحرب والنّزوح واللجوء فرضتْ واقعاً جديداً، لم تجد قبيلة المساليت وحلفاؤها بدّاً من التعامل معه.
النّزاعُ في تشاد جذره القبيلة. السُّودانيون يرفضون ذلك، باعتبارهم “فوق العالم الثالث”، قليلاً، فتكون نزاعاتهم “سياسيّة”. لكنَّ الواقع أنَّ الحزام السُّوداني متشابهٌ جدّاً، حدَّ التطابق. النّزاعاتُ في السُّودان منذ الاستقلال هي نزاعاتٌ قبليّة، وليستْ سياسيّة. وفي أحسن أحوالها نزاعاتٌ جهويّة. تندلق الحمّى من تشاد إلى الجنينة، ثمَّ إلى الخرطوم، في غفلةٍ من معاقريّ الوسائط، والمستنكفين عن الخوض في شؤون القبيلة والجهة، فيما هم غارقون حتّى آذانهم فيها.
ثمّة أحاديث طويلة عريضة من النيجر، مروراً بتشاد حول ضرورة سيطرة المجموعات العربيّة على مقاليد الأمور. في النيجر تمَّ انتخاب رئيس من أصولٍ عربيّة – لأوّل مرّة – مع أنّ العرب لا يشكّلون إلّا 1% من تعداد السكّان. كان هناك حديث قديم عن استراتيجيّة تولّى تنفيذها د. نافع علي نافع، باستقدام عرب النيجر وتشاد ليكونوا درعاً ضدَّ “الزرقة” الذين يقاتلون الإنقاذ. لو صحَّ الحديث ذاك، فإنَّ التناحر ليس في الجنينة وحدها. بل هو قريبٌ جدّاً من حيث تقف. فالمستوطنون الجُدُد ليسوا في الجنينة، وحسب. وعليه فإنَّ التغافل عن الذي يجري في الحزام السُّوداني باعتباره بعيداً جدّاً، لأنّنا “ثقافة نيليّة”، أو “شرق – أوسطيّة”، كما يحبُّ محمد أبو القاسم حاج حمد، أنْ يقول، لهو أمرٌ سطحيٌّ جدّاً، وينبئ عن قصور في الخيال والتدبُّر.