يقيني الذي لا يُدانيه ريبٌ، قطُّ، هو أنَّ فكرة استزراع النّظم في غير بيئاتها محكومةٌ بالفشل. لا سيّما تلك التي نشأتْ تطوراً طبيعيّاً للاجتماع الإنساني. فمحاولات الإنجليز طوال نصف قرنٍ ويزيد في تحديث السُّودانيين حصائدها – بعد نصف قرنٍ ويزيد – تكادُ تساوي صفراً. فلا يزال السُّودانيّ يركب السيّارة الملياريّة، ينزل زجاجها المظلّل ليلقىَ بقارورة الماء في أيّ مكان، كيفما اتّفق. ولا يزالُ ذات الشّخص يخترق بسيارته الملياريّة كلّ قوانين وأنظمة المرور، فالإشارة لا تعني أنْ يتوقّف، وهو مُستعجلٌ ليصلَ إلى أصدقائه الذين وعدهم بكوب قهوة في شارع النّيل، ويطمئنهم – باستمرار – بأنّه في الكوبري، فيما هو لا يزالُ ينتقي ثيابه.
الشّواهدُ تترى، تعضّدُ نظريتي بأنّنا لا نصلحُ لخوض غمار التجربة الدّيمقراطيّة، ولا منظومة الحرّيات التي نشأتْ وتطوّرت في العالم الغربيّ. وذلك ليس عيباً في التصنيع، ولكنّه غباء ارتداء أزياء لم يجرِ تصميمها للطّقس المحدّد. فالصّين – التي تعتبرها الولايات المتّحدة الأمريكيّة المهدّد الأوّل – لم تجدْ في منظومة الغرب ما يلائمُ طقسها، فاعتمرتْ ثيابها الخاصّة، ونهضتْ نهضتها التي جعلتْ وزير الدّفاع الجديد، في حكومة بايدن، يجعلُها الخطر الأكبر.
الدّعاوى المطروحة من قبل قادة الفترة الانتقاليّة – جميعاً – هي العمل على بناء نّظام الحريّات والمواطنة وسيادة حكم القانون. الأغبياء وحدهم من يصدّقون أنَّ ذلك يمكنُ أنْ يأخذَ حيّزَه في واقع السُّودان، ليس اليوم، وإنّما بعد مائة عام. البنية العميقة للمجتمع غير مهيأة لذلك، وغير مستعدة لهضمه والتجاوب معه. ذلك أنّها قبليّة، رعوية زراعيّة لم تتحدّث، وفشلتْ كلّ محاولات تحديثها من لدن كتشنر، كما أسلفتُ، وهي بذلك لا تستطيع إلّا أنْ تتعطّر – متى ما كانت خارجة إلى موعدٍ مع حبيب محتمل – بقليلٍ من عطر الحُريّة والمواطنة وسيادة حكم القانون. لكنْ في قرارتها تظلُّ هي ذات الكومة من الاعتقادات واليقينيات القبليّة والجهوية والشوفينية البدوية.
لماذا لا يقيمُ الإسلاميون إفطاراً في السّاحة الخضراء أو في أيّ مكان؟ أسوةً بالشيوعيين، البعثيين، حزب الأمّة، الاتّحاديين وغيرهم؟ ستقوم الدّنيا ولا تقعد انطلاقاً من بيان لجنة إزالة التمكين، الذي اعتبر الأمر ممارسةً للعمل السياسيّ، من تنظيم محلول ومحظور من ممارسة العمل السياسيّ. البيان قال إنَّ مداهمات حدثتْ، فرَّ على إثرها كثيرون وتمَّ القبض على كثيرين، بعضهم ضبّاط في المخابرات العامّة، الجيش والشّرطة، تمَّ تسليمهم للاستخبارات العسكريّة. المصادر – لاحقاً – قالتْ إنَّ الاستخبارات نفتْ أنْ تكون إزالة التمكين سلّمتْ ضبّاطاً تمَّ القبض عليهم في السّاحة الخضراء ضمن إفطار الإسلاميين. لكنَّ المطلوب هو الإجابة على السؤال التالي: هل يجب نفي الإسلاميين – جميعاً – من السُّودان؟ أم يجب معاملتهم على غير السُّودانيّة هذه، وبالتّالي إسقاط جميع حقوقهم كمواطنين؟
في حال كانتْ الإجابة بـ”يجب نفيهم من السُّودان”، فإنَّ على بعثة الأمم المتّحدة التي طلبها حمدوك أنْ ترتّبَ للأمر، وتضعُ الآليات التي لن يضطرّ معها الطيّب مصطفى إلى حمل “بُقجته” والبحث عن بلد جديد، لأنَّ تهجيره سيكون أمميّاً ومرتّباً ترتيباً جيّداً. أمّا إذا كان علينا أنْ نسلبهم “سودانيتهم”، فنمنع عنهم حقوقاً هي أصيلة بالمواطنة، فذلك موضوعٌ يحتاج إلى أكثر وأكبر من بعثة حمدوك المطلوبة، التي يناقش رئيسها مع والي الخرطوم موضوع النّفايات التي تزكم الأنوف.
الدّعاوى تجبرُ الانتقاليّة والأحزاب الأخرى جميعاً أنْ تطبّق الشّعارات على الإسلاميين. ليس من حبيب محتملٍ لترشَّ له الفتيات – أولئك – بعض عطر الحريّات ودولة المُواطنة وسيادة القانون. لا يمكنُ تجريم أفراد تنظيم سياسيّ كامل. ثمّة مطلوبين مقبوض عليهم، تُجرى محاكمتهم وفقاً لـ”القانون”. أمّا الآخرون فهم مواطنون لا يملك وجدي صالح ولا منّاع ولا غيرهما منعهم من ممارسة الحياة، وفقاً لما يعتقدون.
والحرّيّة حااااااااارّة… كلّمتكم.