د. أنس العاقب يكتب.. ليل الشجن..
غرفة هاشم صديق!!
كانت غرفة هاشم صديق بمثابة ديوان وصالون وملتقى أولئك النجوم الزواهر الأنقياء عمر الطيب الدوش / التيجانى سعيد / ناجى القدسي / صلاح قوله / أبو عركى البخيت / صلاح تركاب / خليل إسماعيل / صالح الأمين / كمال حسن بخيت / صلاح عبد الرازق ومحمد الأمين وآخرين كثر نذكرهم ولا يتسع المقام للإشارة لكل منهم ونترحم على من غادرونا إلى دار البقاء…
صلة الجوار تلك وطدت العلاقة بين هاشم صديق ومحمد الأمين.. وكنت أكثر قربًا من هاشم صديق وعالمه الساحر ومنتداه الجامع ولكن كلاهما ــ هاشم صديق ومحمد الأمين ــ كان يحمل آمالًا وأحلامًا وهمومًا وتطلعًا نحو عالم جديد وسودان حر وديموقراطي وكأنهما كانا على موعد مع لحظة من عمر الزمان ستجمعهما فى عمل ملحمي سوف يظل خالدا مع الأيام… هو قصة ثورة أكتوبر1964المجيدة.
إن أول ما يلفت النظر لهذا العمل العظيم ليس فقط في موسيقيته Musicianship وفي مستواه الرفيع بناءً وعزفًا وغناءً ولكن في زحمة الانبهار بها ربما قد لا يدرك الكثيرون أن الشاعر هاشم صديق لم يكتب النص الشعري libretto بخيال شاعر فقط ولكنه استرجع أحداث الثورة التي كانت تعتمل في دواخله ثم شارك فيها بالفعل فكتبها وصاغها شعراً بحرفية كاتب درامي، ذلك لأن البناء الدرامي شعراً يعتبر من أهم عناصر الفعل الملحمي في كثير من الملاحم التي خلفها لنا التاريخ… كما في ملحمة (قلقامش) الآشورية وملحمتى (الإلياذه والأوديسه) الإغريقيتين قبل 800 من الميلاد ومتتاليات ريتشارد فاغنر الأوبرالية الملحمية في القرن التاسع عشر.
ولا بد كذلك من التأكيد على الدور الأساس الذي أداه أستاذنا الموسيقار الكبير الرائد موسى محمد إبراهيم الذي قام بتدوين هذا العمل الملحمى حينما كان يعد شعرا ولحنا على دفعات متباعدة فكان الرجل يدون اللحن مباشرة من محمد الأمين ثم في زمن وجيز يوزعه على مختلف الآلات ثم يقوم بالتدريبات والتحفيظ والتأكد من كل صغيرة وكبيرة إلى أن اكتمل العمل وأجريت عليه عدة بروفات وقدم للجمهور بحضور القيادات الوطنية، وفي اعتقادي أن الملحمة بصورتها النهائية خرجت من نظام العزف السماعي (الجقلرة) وأضحت أول عمل بهذا الحجم يؤدى بحرفية وعلمية لأول مرة في تاريخ السودان الحديث والسـبب هو اجتماع كل عناصر النجاح المتمثلة في الصدق الفني الذى كان هو السمة الأساسية الدافعة لإنجاز الملحمة ثم يجيء النص الشعري مع النص اللحني متوائمان في فهم عميق لأدواتهما لتصوير ثورة أكتوبر بكل الصدق والإبداع ومنطق الأحداث وتسلسلها.
وأما الفرق بين المسرحية الشعرية والعمل الملحمي هو لا بد في الملحمة من ضرورة اكتمال وتجانس وتسلسل عناصر الربط التاريخي والخيال في بناء التفاصيل الدقيقة لتسلسل الأحداث شريطة الاعتماد على الزخم البطولي Heroic Impulse في صراعه الإنساني ضد قوى الشر وشـراستها لينتهي الصراع المرير إلى حتمية انتصار الخير في النهاية مهما طال أمده كما في ملحمة (الإلياذة Iliad ) وحروب (طروادة) أو في رحلات يوليسيس البحرية في ملحمة (الأوديسا Odessa)..
وأما المسرحية الشعرية في تاريخ المسرح العربي فهي قد تناولت أنماطاً مختلفة من المشاهد التاريخية القديمة والحديثة وما تميزت بها في المسائل المتعلقة بالتنوع البنائي وتأثيره على الفعل الدرامي من ناحية وفي عدم ارتباط النص بالغنائية والاكتفاء بتحول الشعر إلى حوار ذي طابع خاص من الناحية الأخرى…. كما فى مسرحية (الحسين شهيداً) للشاعر عبد الرحمن الشرقاوي أو فى مسرحية (الأميرة تنتظر) للشاعر صلاح عبد الصبور وكلتاهما تختلفان تماماً عن الأسلوب الذي اتبعه الشاعر أحمد شوقي في تأليف مسرحياته الشعرية… ومسرحيته (مجنون ليلى) كمثال وهناك مسرحيات كثيرة جدًا جمعت بين الشعر والغناء والحوارتجسدت في مسرحيتي (أحلام الزمان ونبته حبيبتي) لشاعر الملحمة هاشم صديق.