المؤرّخُ الصينيُّ الذي زار بغداد على أيّام حكم العبّاسيين، قال إنَّ الدّين الذي شاهدَ اتباعه هناك، يجعلهم مثل نهرٍ يتبعُ مجراه. لا يملكون أنْ يحيدوا عن تعاليمه قيدَ أنملة. كان قد عاش فترةً يراقب نهضة النّاس حين يُرفَعُ النّداء للصّلاة، حين يأتي شهر رمضان، وغيره. ومع أنَّ الكثيرين من المسلمين كانوا – ولا يزالُ عددهم يزيد كلَّ عام – يرون في الدّولة العبّاسية تجسيداً لكلّ شئ إلّا الإسلام، باعتباره عصراً أصابَ فيه الإسلام فيه دَخَلٌ كثير، إلّا أنَّ المؤرّخ الصينيّ وجدهم قوماً منضبطين ومستقيمين إلى درجة أنّه وصفهم كأنّهم “نهرٌ يتبعُ مجراه”. في مستشفى أمينو كانو، بمدينة كانو النيجيريّة، اتّهمتنا سكرتيرةُ المدير بأنّنا ندّعي الإسلام، لأنَّ المسلمين الذين “يعرفونهم” لا يجلسون للأنس حين يرتفع النّداء للصّلاة. كان يمكنُ أنْ تجادلنا حتّى هذه اللحظة، استناداً إلى الإسلام والمسلمين الذين تعرفهم. ليس ثمّة إمكانيّة لوجود نمطٍ آخر من الإسلام، وليس هناك من سبيلٍ إلى إقناع المؤرّخ الصّينيّ أو سكرتيرة مدير مستشفى أمينو كانو، بذلك.
على أنَّ الكثيرين يعرفون أنَّ التديُّن اختلط بالمظهر الاجتماعي والعادات والتقاليد. لكنَّ الظّاهر من الشعائر العامّة والحرص عليها ينبغي أنْ يشير إلى أنَّ المجتمع الذي يقوم بها، على وجهها الأكمل، هو مجتمعٌ متديِّنٌ حتّى الثمالة.
نشطتِ الأحاديث المؤكّدة على قرب تشكيل المجلس التشريعيّ الانتقالي، استكمالاً لهياكل السُّلطة الانتقالية التي وقّعَ عليها الأطراف المشاركون فيها. كانت جهاتٌ عديدة قد عدّتْ تأخير تشكيل التشريعيّ نكوصاً، بمعنىً ما، عن الثورة، أو تراخياً في إنفاذها إلى غاياتها، باعتباره الضلع الأخير من أضلع مثلّث هياكل السُّلطة الانتقاليّة. وعلى الرّغم من أنَّ القائمين على الأمر استحدثوا هيكلاً رابعاً هو “مجلس شركاء الفترة الانتقاليّة”، إلّا أنّ الحريصين على الثورة والثوّار يعدّونه ضروريّاً ومهمّاً إلى الدّرجة التي يعلّقُ عليه الكثيرون منهم آمالاً عراضاً. لكنَّ السؤال: بتشكيل التشريعي الانتقالي، هل سرنا بعيداً عن خطوات حكومات ونظام تفكير الإنقاذ الوطني؟
ما الذي يعيبُه المعارضون للإنقاذ في حكمها ثلاثين عاماً؟ أنّها “قوّضتِ النّظام الدّستوريّ”، – بليلٍ والنّاسُ نيام، فاستولتْ على الحكم، مستخدمةً عناصرها في الجيش. ثمَّ صيّرتِ الحكم بيتاً لأبيها، تديرُه دون أنْ تلقي بالاً للآخرين. سلبتهم حقوقهم، وحكمتهم حكماً منفرداً طبّقتْ منهجها في كلّ شئ، من مجلس الوزراء حتّى خفراء الجنينة. أفرغتِ المؤسّسات من الكوادر الكفؤة غير الموالية لها، وأعادتْ تعبئتها بكوادرها، وجيّرت إمكانيات ومقدرات البلاد لنظامها الأحادي الذي لا يقبل جدلاً حول صحّته.
حسناً… ما الذي تفعلُه حكومة ثورة ديسمبر؟ على أيّ أسس أقامتْ هياكل سلطتها، وعلى افتراضات بنتْ ترشيحات المرشحين ليشغلوا المناصب المقترحة والتي ستشغر نتيجة لتفكيك التمكين وكنس آثار وكوادر الإنقاذ؟ ليس على أيّ منهجٍ “غير إنقاذي” فعلتْ وتفعلُ ذلك. بل تفعلُه حذوَ الرّجل بالرّجل. مستلهمةً تجربتها في كلّ شئ إلى درجة أنّها تعجزُ عن ابتكار طرقٍ جديدة أو افتراع دروبٍ صغيرة تعبّرُ عن أصالتها. تأخذُ مقرّ منظمة الشهيد، تنزلُ لافتته وترفع لافتة منظمة أسر شهداء ديسمبر. تغيّر شارعاً أو داخليّة باسم شهيدٍ آخر. تستبدلُ تمكيناً بآخر. ترفض تشريعيّاً تمَّ تعيينه من قِبَلِ الإنقاذ ليمرّر قوانينها، بآخر يغلب عليه العناصر “الموالية” ليمرّر تشريعات قحتيّة جديدة. حتّى ليمكنُ القول بأنّها – حكومة الثّورة – من فرط تقليدها للإنقاذ بدأتْ بذات شظف العيش الذي بدأتْ به الإنقاذ.
النّاظرُ بتمعّنٍ لا يرى إلّا ما يراه المؤرّخُ الصيني ذاك. “نهرٌ يتبعُ مجراه”. ليس من جديدٍ يمكنُ أنْ يشير إلى أنّنا اختلفنا في شئ. إلّا في بعض العنت الإنقاذي والسحل وامتهان كرامة الإنسان، وهذا نفسه، سنكونُ مقبلين عليه، بعد الفراغ من تأسيس جهاز الأمن الدّاخلي القحتّي، الذي يجرى التّرتيب له جيّداً، ليحلَّ محلَّ القديم، و”قوش” الجديد جالسٌ يطالعُ في كتاب “كيف تصنعُ قنبلة موقوتة”.