إبراهيم أحمد الحسن يكتب.. أضرب.. ولا تشتُم!
ليقيني بأنه “لا خير في قُربى بغير مودّةٍ”، ذهبت يوماً إلى نادي الزومة في الخرطوم، لحضور واحدة من احتفالاتها، وهم أهل نصرٍ وفوز، و”يسبقني الشوق قبل العينين”. وفي طريقي إلى المقعد المُخصّص لي، علا صوت المذيع الداخلي، يقول: “مرحباً بوصول ابن الزومة البار”.
قالها تلطّفاً من باب المجاملة والمبالغة في الترحيب – وربما فعلها مع كثيرين قبلي – لكن فات عليه بأن لي “صُرّة” من أسلافي مدفونة في الزومة!
وزومة الشايقية التي تقع بين الدهسيرة ومقاشي، غير زومة ود سلفاب في بانقا، وزومة الشّرَيك عند الرباطاب.
ابتسمت لحُسن ظنّ المذيع بي، واعتباري من أبناء الزومة الأبرار، وأنا المنسوب فخراً لعروس الرمال.. ومن “شباب الأبيّض غرّد حبابا”. غض النظر عن جذوري الضاربة في أية بقعة وطأها آدم. وقد صيّرتنا جغرافيا الانتماء، إلى رهط “الجاي من الجريف والجاي من الجبل”، نحمل معنا الجينات التي صدحنا بها كأغنيات شوقٍ على رؤوس الأشهاد: “مُش كلّنا جينا من آدم.. ومُش آدم أبو البشرية”؟
تذكّرت كيف أنّ صلات السودانيّين وقراباتهم ونساباتهم، تمسك برقاب بعضها البعض. وتذكّرت جدّتي (الزوماوية): آمنة بت عمر، التي جعلت حبل الوصل والوُد مُمكناً ومُمتداً بين الزومة ونُوري الجبل.. “في كل ساعة الفرح أو لحظات الحزن”.
تذكّرت أمي رضوان الله عليها، وهي تهاتفني من بُعد مئات الكيلو مترات، جالسة في عنقريبها الهبابي في الحوش الكبير بعروس الرمال. تهاتفني متى سمعت بوجهتي إلى “نُوري الجبل”: “ما تنسى يا ولدي تنزل في مروي أبو دوم، تبارك وتعزّي وتهني”. ثمّ تختم وهي تدعو بالسلامة، وكأنّها تردّد أنشودة الصديق عبد القيوم الشريف: “يبراك السلام”. عندها، امتثل لأمر أمي – لها الرحمة وجنات النعيم – وأهبط أبو دوم في طريقي إلى نُوري. وبدلاً من أن يكون اللقاء عابراً خفيفاً، أجد نفسي مقيماً بين أهلي الكرام، لا ظاعناً منهم!
أمّا لو دار محور حديثي عن جدّتي السيدة بنت الطيب، فإن في أمرها عجباً من تلاقح النسب وامتداد الحسب.. ولها في كل ناصية (كروموزوم)!
جعلت حبوبتي (سيدة) من مُناسباتنا، مهرجاناً للشلوخ. يختلط فيه حابل المطارق بنابل العارض والنقرابي و.. “طبيعي خلقة ربك/ ما داير زيادة”. وفي مهرجان الشلوخ هذا، تبدو أذواق السودانيين أجمل ما تكون، لأن الشلخ لا يفسد عندهم للجمال قضية!
وعن الشلوخ، حكى البروفيسور يوسف فضل الذي تميّز بعلومه الوافرة وشلوخه النافرة، إنّ جدته انتهزت غياب والده و.. (شلّخته). فكان ذلك سبباً في أن كتب مرجعه العلمي الرفيع: (الشلوخ.. أصلها ووظيفتها في سودان وادي النيل الأوسط). تماماً كما كان ترحيب المذيع بـ(زوميّتي)، سبباً في كتابتي لهذه الخواطر، وأنا لا افتأ أردد: “جعلي وشايقي ودنقلاوي أيه فايداني/ غير خلقت خلاف خلّت أخوي عاداني/ خلّو خبرنا يسري مع البعيد والداني/ يكفي النيل أبونا والجنس سوداني”.
ذهبنا يوماً إلى شمبات و”حلاة الجمعة يوما وحلو شمبات مقيلا”، لنُشارك عمّنا وخالنا إبراهيم أحمد الطيب مناسبة عُرس، وجلست “تحت فيحاء خميلة” في حوشه الوسيع، ولا يخفى عليكم من اسمه، أن (حلّالة المشبوك) جدّتي السيدة بنت الطيب، هي عمته (لزم).
عندما ضج الشباب بأواني الضيافة، نادى مهندس الأقمار الصناعية صلاح محمد عبد الله، على أحد أبناء عمومتي وهو ينشط في خدمة الضيوف وسأله مُندهشاً: “يا زول إنت علاقتك شنو بناس العرس ديل”؟!
كانت الإجابة الصاعقة للسائل: “ناس العرس ديل خيلاني”.
ولأن العريس كان ابن خالة المهندس صلاح، اكتشفنا أنا وزميل مهنتي صلاح، أننا: كذلك “أولاد خالات”، ولم يكن يجمع بيننا من قبل، سوى طبق الفول وطبق الأقمار الصناعية في محطة انتلسات بأم حراز جنوب الخرطوم.
حبوبتي بت الطيّب نفسها، هي من جعلتني أنا والشمباتي – زميلي في (شركة زين) في واحدة من محطات تاريخها الناصع – أسامة عبد العزيز، جعلت منّا (قرايب)، منحدرين من شلخ المطارق، أو أياً من الحروف الإنجليزية التي تزيّن خدود السودانيين.
وما أعجبها (شربكة) حبوبتنا السيدة بنت الطيّب عليها الرحمة، حين جمعتنا بصلة قربى (لحم ودم)، مع النقابي العطبراوي الأشهر، الطيب حسن الطيب الذي ربطت بينه وحسن خليفة العطبراوي، علاقة أخوة صادقة لازمتهما منذ الصبا الباكر، إلى القبر العامر بالرحمة. ويكفي الطيب فخراً، أن كتب لرفيقه وصديقه حسن خليفة العطبراوي: “يا وطني العزيز/ يا أول وآخر/ أهتف بحياتك/ وبحبك أفاخر”. ويكفينا فخراً، أنّه أول سكرتير لنقابة عمال السكة حديد في العام 1947، وأنّه من مُؤسِّسي رابطة نهر عطبرة الأدبية، وفرقة النهضة. ويكفيه فخراً، أن كان سبباً في كتابة وأداء الأغنية الرمز “أنا سوداني”.
لمّا كان حسن خليفة بحاجة إلى قصيدة وطنية داوية، طلب من صديقه الطيب حسن، أن يطلب من الشاعر محمد عثمان عبد الرحيم، القادم من رفاعة إلى عطبرة، مُحاسباً بالسكة حديد، أن يكتب له قصيدة وطنية لا تقل سطوة عن: “يا غريب يللّا لي بلدك”. ولأن شاعر رفاعة الفذ، كان صديقاً للطيب ومن أقربائه، لَبّى محمد عثمان عبد الرحيم النداء، وكتب: “أنا سوداني أنا”. وصارت فيما بعد، نشيداً وطنياً مُوازياً ومُوحّداً لِجَميع السُّودانيين.
قبل أن أبرح محطة عطبرة، ذهبت إلى بيت خالتنا التي نلتقي معها في جيلٍ مُمتدٍ من الحبوبات الطيّبات، لاتّخذه سكناً ريثما أحضر حفل تخريج ابن أختنا في جامعة وادي النيل. وحين طرقت الباب، فُوجئت بالفنان العطبراوي خوجلي هاشم هو من يفتح لي مرحباً!
وقتها، عرفت أنّ خوجلي قريبي، ومن خيرة عشيرتي ويشاركني جينات حبوبتنا المشتركة التي رحلت بالأمس، الحاجة دار النعيم، عليها الرحمة.
وذاتها جدتي السيدة بنت الطيب، هي التي تدفعنا روحها دفعاً إلى مدينة رفاعة، لمُعايدة عمنا ميرغني أبو شنب ورهطه، لنجده بقامته الفارعة وشلوخه (الأتش)، فارداً يديه حَدّ اتّساعهما، مُرحباً بأهله. كما حملتنا ذات الجدّة المُباركة، إلى الجوار السعيد عند بطاحين ود مدني، نواحي عترة العباسية، للسلام عَلَى عَمّنا خليفة سيد أحمد، ابن السيدة بنت الطيب (لزم).
جدتنا السيدة بنت الطيب، أمم سودانية مُتحدة جداً. جمعتنا وصهرتنا بأحباب أعزّاء من جميع أركان السودان. وهي من تحملنا – مع غيرها من صلات القُربى والنسب والجيرة ورفقة الصّداقة وزمالات الدراسة والعمل والسفر الطويل – هي من تَحملنا إلى السفر جوّاً وبراً ونيلاً في أنحاد البلاد المُباركة، لوصل الأرحام ومُعايدة الأحباب في المُناسبات المختلفة “من حد البلد غربي/ لي حد البلد شرقي”.
ولا ننسى أن بين عروس الرمال والخرطوم عموم ونُوري والزومة ومروي أبو دوم ورفاعة ومدني وعطبرة وبورتسودان وحلفا وفاشر السلطان، تتمدّد أواصر العلاقات مَحَبّةً وقُربى وصداقات وزمالة ومُصاهرة، تجعلنا نُحلِّق مع سيف الدين الدسوقي في علياء شعره: “وآخرون دماهُم كوّنت نسبي/ وأصدقاء عيونٍ فضلهم مددِ/ إن حدثوك حسبت الصوت صوت نبي”.
ويظل القول الشعبي شاخصاً: “إذا تشاجرت مع سوداني ووصلتما بالشجار نقطة الّلا عودة، كيل له الضرب وسع حيلتك، إلى أن يقيض الله لكما حجّازاً يفك الاشتباك، ولكن إيّاك ثم إيّاك أن تشتمه، حتى لا ترتد إليك الشتيمة حين ينقشع غبار العِراك، وترى أنّ الذي تشاجرت معه.. قريبك لحماً ودماً”.
فالوصية بالمهلة: أضرب ولا تشتم!