عبد الحفيظ مريود يكتب :هياجُ المقتالين الغبش
لن يذكُر أحدٌ أنَّ إبراهيم عبُّود، الرئيس الأسبق، هو مَنْ قامَ بإنشاء كذا وكذا، لكنْ لنْ ينسى أحدٌ أنَّ ذات الشّخص/الرئيس، من قام بتهجير أهالي وادي حلفا إلى البطانة. كما لنْ ينسى أحدٌ أنَّ ذات الشّخص/الرئيس هو من قامتْ ثورةُ أكتوبر ضدَّه، وأطاحتْ به. كرئيس ديكتاتور، جاء إلى الحكم، محمولاً على ظهر دبّابة، كما يقولُ المعارضون السياسيّون للأنظمة العسكريّة. تنطفئ – على مرّ التاريخ – محاسنُ الرؤساء المقتلعين، وتبرزُ مساؤهم. ذلك طبيعيٌّ في أفعال الغوغاء والعامّة. لا يقيمون ميزان العدل، وأقرب ما يكونون إلى تفعيل العقل، والعمل بأحكامه. مثل النّساء، تماماً. جالسْ أيَّ امرأة حديثة التطليق من زوجها، ستجدُ أنَّها احتملتْ ما لا يحتمله بشر. مظلومة حتّى لتكادُ تُبكيك، من فرط سوء معاملته لها.
الغوغاء والنّساء سواء. هذا الأمر غير قابلٍ للنقاش. يتوجّبُ أنْ يجرى تقويم العامّة، الغوغاء، لا أنْ يعومَ العاقلُ على عومهم. ما الذي يقتضي مثل هذا الكلام؟ دون شكّ ثمّة مقتضيات بالغةٌ أجلَها. حين يفكّرُ الرّجالُ في بلدانهم، بنائها وضمان مستقبل أجيالها يتسامون فوق صغائر الأمور والاهتمامات. حين كان الإمام الصّادقُ المهديّ يكرّرُ باستمرار أنَّ “الفشّى غبينتو، خربْ مدينتو”، لم يلقِ له أحدٌ بالاً. بل كانَ أغلبُ الثائرين يعتبرونه تراخياً وتوليّاً يومَ الزّحف. على أنَّ المساميرَ التي ضُرِبتْ في نّعش الوطن، من الكثيرين، لا تستطيعُ أعتى مقاليعُ النّجّارين أنْ تقتلعها، لسببٍ بسيط، هو أنَّها غاصتْ عميقاً.
ما يقتضيه ذلك هو أنَّ الوضعَ القائم لا يبشّرُ بمسيرٍ قاصدٍ إلى أيّ مكانٍ سوى الهاوية، الفاغرةِ فاهاً غويراً مظلماً. في نقاشاتٍ قليلةٍ مع شباب، دأبتِ أحزابُهم أو متنوّروهم على تنويرهم بالحقائق الغامضة: الإنقاذ دمّرتِ البلاد، مشروع الجزيرة، السّكة حديد، النّقل النّهري، النّقل الميكانيكيّ، الخطوط الجويّة، الخطوط البحرية والخدمة المدنيّة. هذا صحيح. لا شكّ في أنَّ الإنقاذ دمّرتْ كلَّ ذلك وأكثر. وسيجتهدُ كثيرون ليؤكّدوا بالوثائق أنَّ ذلك حدث. ولن يغالط فيه أحد. لكنْ لا أحدَ – ممنْ حضرَ الثمانينات راشداً عاقلاً – سيتمكّن من إيضاح لماذا كان السُّودان في الحضيض، حين كانتْ كلُّ هذه الأشياء سليمةً، مثل فتاةٍ ناجيةٍ من مخالب الأمهات المتربّصات بختانها، وتغذّي الناتج الإجمالي للبلاد بالأرقام الكذائيّة؟ حين لمْ تكنْ هناك من “إنقاذ” تلوح في الأفق أو تُحكم قبضتها على البلاد؟ ستبدو الإجاباتُ مضطربةً جدّاً، وغير قابلةٍ للقسمة على واحد، بسبب أنَّ العلّة ليستْ في الإنقاذ أو “الكيزان”، وإنّما تكمنُ في مكانٍ آخر.
تماماً، بعدما صارتِ الإنقاذ أحاديث وحكاياتٍ يلوكها الصّغارُ والكبارُ. لماذا نتراجعُ كلَّ يومٍ عن “سودان الإنقاذ”، ولماذا نيممُ شطرَ الهاوية الفاغرة فاهاً عميقاً مظلماً؟ نتدهور في كلّ شئ حتّى بعد أنْ قامتْ إزالةُ التمكين بأعبائها؟ حتّى بعد أنْ استردّتْ كلَّ ما بلعه الإنقاذيون واستخرجته من أحشائهم وأحشاء أبنائهم وذراريّهم؟ وحتّى بعد ما أقمنا حكومة العدل، التي يقودُها الوطنيون الخلّص؟ هل لعلّةٍ في القصر الجمهوريّ، مجلس الوزراء، تركها الإنقاذيّون؟ هل دفنوا “عملاً” كارباً جلبوه من نيجيريا، السنغال، أو المغرب ونواكشوط؟
ما لم يتمكّنَ العاقلون من النّظر إلى الأشياء بميزان العدل والاعتدال سنكون في طريقنا إلى الهاوية، صدقاً. العلّة ليستْ ثلاثين عاماً عزلتنا عن محيطنا الدّوليّ، أو أفقدتنا خيرة كوادر الخدمة المدنيّة، أو دمّرتْ مشاريع خلّفها الإنجليزُ/أجدادنا. ننكرُ فيها أنَّ الإنقاذ هي من صنعتْ طريقاً مسفلتاً يمكنُ لوجدي صالح أنْ يركبه إلى من تبقّى من أهله في وادي حلفا، أو يركبه جبريلُ إبراهيم إلى أهله في الفاشر، أو بنيةٍ تحتيّة نفطية تفقدُ فيها مصفاة الجيلي من يصينها، لأنَّ “الكلّ” دولة عميقة. وتناصبُ فيها وزيرةُ التّعليم العالي زملاءها العداء، تفصلهم عن إدارة الجامعات الحكوميّة، الأكثر من ثلاثين جامعة، لأنّهم لا يؤمنون بميثاق الحرّية والتغيير، كأنّما الجامعات هذه أُنشئتْ أيّام اعتصام القيادة.
فتأملوا يا أولي الأبصار.