عبد الحفيظ مريود يكتب.. مسألة في السياسة
في تنظيرات علماء اللغات، هناك استضافات لغويّة. كانوا يتحدّثون في المتحف القومي بشارع النّيل، عن اللغات الوافدة، بحكم القبائل. قرّروا أنَّ الفولانيّة من اللغات الوافدة. لكنّها أثّرتْ فى العاميّة، عبر استضافة العاميّة السُّودانيّة للكثير من مفرداتها. والفولانيّ/ الفلّاتة هاجروا من غرب إفريقيا إلى السُّودان. كانتِ النّدوة تسير كما ينبغي لها، قبل أنْ يأخذ البروفيسور منتصر الطّيّب، عالم الجينات المعروف فرصةً في التعقيب. طلب بروف منتصر أنْ ينفتح العلماء الأجلاء على العلوم الأخرى، وكشوفاتها، قبل انْ يغرقوا في التصنيفات الكلاسيكيّة. ذلك أنّه، ومن خلال الأبحاث الكبيرة، تبيّنَ أنَّ الفولانيّ شرق أفارقة، هاجروا إلى غربها في سنوات محلٍ وجفاف وحروب، هجراتٍ متتالية، قبل أنْ يضطرّوا إلى ارتكاب هجراتٍ عكسيّة إلى النّيل وشرق إفريقيا مرّةً أخرى، لأسباب متعدّدة.
المعلومة الصغيرة هذه، ينبغى أنْ تفعل فعلاً كبيراً على مستوى دراسة التأثيرات اللغويّة والثقافيّة وإعادة فرزها وتصنيفها، كما فعل هيرمان بيل مع اللغات الإفريقيّة. شيء ما، سيجعل وجود الفولانيّة مبررٌ في العاميّة السُّودانيّة، ومن ثمَّ تأثيرات الثقافة الفولانيّة في مجموع الثقافات السُّودانيّة يحتاجُ أنْ تُعادَ دراستها وإعادة توضيعها. لا سيّما إذا وُجِدَ أنَّ الضرب بالسّوط، في الأعراس وغيرها، متجذّر في ثقافات الفولانيّ في مظانّها، في مالي، كاميرون، نيجيريا وغيرها. ذلك أنَّ الشّائعَ أنَّ الفولاني أتى بهم طريق الحجّ مجموعاتٍ صغيرة، قبلَ أنْ يأمرهم عثمان بن فوديو بالهجرة في حال حدث كذا وكذا إلى بلاد النّيل، أو يستميلهم الإنجليز للبقاء، في حاجتهم للقوى العاملة في المشاريع الزّراعية وغيرها. فالتوقيتُ الحادث لهجراتهم، يجعلُ التأثير والتأثُّر الثّقافي غير منطقيّ، ويحتاج ترجيحاتٍ أخرى. لا سيّما وأنَّ ثورة الفكي عيسى الفلّاتيّ، ضدَّ الإنجليز في منطقة جبال النُّوبة، والتي يقولُ المؤرّخون إنَّ قوام جيشه يُقدّر بـــ 12000، لا يمكنها أنْ تدَعَ للقائلين بحداثة هجرات الفولانىّ مجالاً للشّك.
بمثلما قطعَ د. محمود رزق، أستاذ التأريخ والباحث الإسطين بأنَّ مفردة “اليَمْ” التي وردتْ أكثر من مرّةٍ، فى سياق قصّة سيّدنا موسى عليه السّلام، والتي حارَ المفسّرون في تنسيبها إلى لغة ما، هي في الحقيقة “سودانيّة” بحتة. نوبيّة/ بجاويّة، واستقدَمها القرءان، ليشير إلى موطن النبي موسى عليه السّلام، وقومه. ذهب المفسّرون إلى لغاتٍ “أرفع” قليلاً، مستبعدين – كما هو الحالُ دائماً – أنْ يكون هناك نبىٌّ أسودَ، أو ينتمي إلى “السُّودان”، وتلك مباحث أخرى.
يقتضي الوضعُ العامُ إعادة “تهذيب” المكوّنات السُّودانيّة، على وجه السُّرعة، وعلى أجنحة العلوم الجديدة والكشوفات. لنْ يملك أحدٌ في الوقتِ الرّاهن، كيف أصبحَ الفولانيّ/الفلّاتة القوى البشريّة والسياسيّة المؤثّرة في ولاياتٍ كالنّيل الأزرق، سنّار، ولا تكادُ تخلو مدينة سودانيّة من وجودهم الفاعل والمؤثّر. إلى الدّرجة التي يشكّلون فيها قوام الوجود البشريّ في منطقة الفشقة، التي يقاتلُ الجيش السُّودانيّ هذه الأيّام، وتقاتلُ الحكومة بخبرائها جميعاً من أجل تطهيرها من الوجود الإثيوبيّ/ الأجنبيّ. فالواقعُ الماثلُ أنَّ الأرض الأكثر خصوبةً في السُّودان، الرّكن القصيّ من حدود السُّودان الشّرقيّة، هي أرضٌ فولانيّة. وسكّانُها سودانيون – بكلّ معنى الكلمة – فولانيون تقف الدّولة كلّها، بإمكاناتها السياسيّة، الدبلوماسيّة، العسكريّة وغيرها للدّفاع عنهم وعن أراضيهم وحقوقهم.
ذلك يفتحُ البابَ واسعاً أمام الحديث والأحاديث حول الهامش والتهميش. ينبغي تثقيف السياسة والسياسيين جيّداً قبل وضعهم أمام الكاميرات وماكرفونات الإذاعات والقنوات والنّدوات والمؤتمرات. لضمان بناء السُّودان، قبل أنْ نتناحر على مَنْ قَدِمَ إلى “هنا” أولاً. ومَنْ جاء جدّه يحملُ ماذا على كتفه، ويتزوّج بنت فلان.