الخرطوم: مريم أبشر
لم يكن نجاح ثورة شباب التاسع عشر من ديسمبر لتصل إلى غاياتها المنشودة من فراغ، ولم يكن هتاف حناجر الشباب الذي شق عنان السماء (تسقط بس) يصل إلى اللفة الأخيرة في سباق وضع النهاية لأعتى أنواع الدكتاتوريات ليأتي هكذا لولا أن ثورة الوعي الشبابي عاهدت نفسها الالتزام بأقوى أنواع التسلح وهو سلاح السلمية، رغم علمهم بحجم الآلة العسكرية التي تمتلكها أجهزة النظام البائد بكل تصنيفاتها المتعددة.
عاهد الشباب بعضهم البعض على مواجهة الرصاص المطاطي والحي وغازات البنبان بآخر ما أنتجه العالم من أنواع، بصدور عارية وأيدٍ مرفوعة وأصوات تخترق الأجواء تنادي بسقوط النظام.
السر :
سر نجاح الثورة لتتوج انتصارها الكامل في الحادي عشر من إبريل 2019 بإطاحة نظام الرئيس المعزول عمر البشير، بأن توفرت له جملة من الأسباب، ولكن تأتي في المقدمة سلميتها التي هزمت الآلة العسكرية والأمنية لنظام الإنقاذ بعنفها وقمعها وجبروتها وتسلطها. فقد شكل شعار السلمية الذي صدحت به حناجر كنداكات الثورة وشبابها الصخرة التي تكسرت عندها آلة القمع والبطش، وحفظت أسراره الأزقة والشوارع بمطاردات (تاشرات) النظام بكل أنواعها للمتظاهرين داخل الأحياء وهم عزل لا يملكون غير حناجرهم التي تهتف مطالبة بالحرية والسلام والعدالة، أضف إلى ذلك شمولية الثورة، حيث انتظمت التظاهرات كل مدن وقرى وبوادي ونجوع السودان، ثم وضوح شعاراتها المتمثلة في (الحرية والسلام والعدالة)، وإجماع الشعب بمختلف فئاته وطوائفه وتصميمه على إنهاء 30 عاماً من حكم الحركة الإسلامية خاصة بعد أن فاحت رائحة الفساد المنظم، ووصل الوضع للحالة الصفرية.
لم تكن قضية انعدام الخبز والوقود وحدها هي التي حركت الثوار، بل تراكمات سنوات طويلة من الحكم الشمولي والقمع والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، وإهدار موارد البلاد على الأمن والصرف البذخي على مؤسسات النظام والمحسوبية وتدمير البنية التحتية وتخريب مؤسسات الدولة تحت دعاوى الخصخصة، وتخريب علاقات السودان الخارجية وربطه بأحلاف التنظيم الدولي للإخوان، علاوة على احتكار السلطة، وإشعال نيران الحروب والصراعات في دارفور وجبال النوبة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وتعديل الدستور حتى يتسنى للمعزول الترشح لولاية انتخابية جديدة في 2020، هي عوامل حفزت الشارع والجماهير الغاضبة للخروج للشارع بسلمية مطالبة برحيل النظام.
علامة فارقة :
وشكل يوم السادس من أبريل في العام 2019 علامة فارقة في تاريخ الثورة السودانية، وهو يوم ظل محفوراً من قبل لارتباطه بالتحرر من شمولية مايو.
فى ذلك اليوم وجّه تجمع المهنيين وسط تشديد بالتزام السلمية، بتسيير موكب في ذكرى انتفاضة 6 أبريل 1985 التي أطاحت الرئيس الأسبق جعفر نميري، صوب قيادة الجيش لتسليم (مذكرة التنحي)، ومنذ ذلك التاريخ، ظلت أعداد المعتصمين أمام القيادة العامة للقوات المسلحة تتجاوز المليون شخص، إلى أن أعلن النائب الأول للرئيس وزير الدفاع عوض بن عوف يوم الخميس 11 أبريل في بيان اعتقال الرئيس البشير، وتشكيل مجلس عسكري انتقالي، وبدء فترة انتقالية لعامين، كما أعلن أيضاً إعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر وحظر التجوال لمدة شهر.
وفي اليوم التالي 12 إبريل، أعلن ابن عوف، التنازل عن منصبه واختيار الفريق أول ركن عبد الفتاح برهان خلفاً له. كما أعلن إعفاء الفريق أول كمال عبد المعروف نائب رئيس المجلس. كما قبل المجلس العسكري لاحقاً استقالة أربعة من أعضائه هم: الفريق أول ركن عمر زين العابدين، الفريق أول جلال الدين الشيخ الطيب، الفريق أول شرطة الطيب بابكر، والفريق مصطفى محمد، مدير الاستخبارات العسكرية.
السلمية بهرت ماكرون:
سلمية الثورة كانت غير مسبوقة، وقد أذهلت العالم بأسره خاصة العالم الحر.. فعلى امتداد خمسة أشهر لم تشهد البلاد أحداث عنف أو تخريب للممتلكات أو حمل أي نوع من السلاح من قبل الثوار حتى السلاح الأبيض.
يقول السفير والخبير الدبلوماسي الصادق المقلي (للصيحة): قابل الثوار رصاص القوات الأمنية بصدور عارية، بل حتى النساء تصدين القنابل المسيلة للدموع وكما شهدت الثورة تغطية عالمية للثوار، وبصفة خاصة لكنداكات الثورة.. وتجلت هذه السلمية بصورة مذهلة إبان الاعتصام في القيادة والتي أثارت إعجاب وفضول سفراء الدول الغربية في الخرطوم، حيث دأبوا على زيارة موقع الاعتصام الذي ضم كافة شتات السودان من شيب وشباب، نساءً ورجالاً وأطفالاً وأسراً، جعلت من مقر الاعتصام ساحة للنزهة والترفيه.
ويضيف المقلي: نشرت صحيفة لوموند الفرنسية الواسعة الانتشار عالمياً حينها صوراً للثوار حتى وصول قطار عطبرة في الصفحة الرئيسية. وزاد: وقد دفعت سلمية الثورة الرئيس الفرنسي ماكرون إلى التصريح معبراً عن إعجابه بسلمية الثورة.. بل دعا المتظاهرين.. أصحاب السترات الصفراء يومها أن يحذوا حذو الثوار في السودان وأن يكفوا عن أعمال العنف وتخريب المنشآت العامة..
سلاح النجاح
أما البروفسير وأستاذ العلوم السياسية في الجامعات، فأكد على أن السلمية التي انتهجها ثوار ثورة ديسمبر المجيدة هي أقوى عامل لنجاح الحراك لثورة التاسع عشر من سبتمبر المجيدة مضيفاً، أنه لو لا السلمية لكانت الأحداث اتخذت مساراً مختلفاً، حيث كان يمكن لو أن الثوار استخدموا العنف مثل الحجارة أو الحرق لكانوا قد وفروا لأجهزة النظام فرصة لاستغلالها ولتشوهت الانتفاضة، ولتم وصفها بثورة الشغب والعنف، وأن هنالك جماعات دخيلة استغلت الوضع لتقويض الأمن وتعريض سلامة الوطن وتعريض أمنه القومي للخطر، ولبحث عن المسوغات القانونية للتنكيل والبطش بالثوار وحينها كانت الثورة ستخمد في مهدها، وكان النظام أيضًا سوّق للعالم الخارجي بأن ما يحدث تخريب وتهديد للأمن، وقال مختار (للصيحة)، هذا ليس بغريب، فهو ديدن الأنظمة الدكتاتورية في قمع شعوبها وإخماد حراكه. وتابع: إذن في رأيي أن السلمية التي كانت شعاراً للثورة سحبت البساط من الحكومة ولذلك لم تجد لها مبرراً لشق الصف وأدار الشعب انتفاضته بوعي وكسب الرأي العالمي الإقليمي المساند للحراك، بل أن ثورة ديسمبر المجيدة أصبحت نموذجاً في العالم للحراك الثوري السلمي، ولذلك السلمية مع شجاعة الشعب وتماسكه فضلاً عن عدالة قضيته الهادفة للانعتاق من النظام الدكتاتوري الفاشي هو العامل الأساسي إلى جانب عوامل أخرى في نجاح ثورة ديسمبر المجيدة.
لا خوف على الثورة
السلمية شكلت جوهر العمل النضالي ضد الإنقاذ ونالت الثورة بسببها رضا القوى الإقليمية والدولية، كما يقول الدكتور والخبير الأكاديمي صلاح الدومة في حديثه للصيحة، ويضيف: بهذه السلمية تحققت أهداف كثيرة أبرزها الإطاحة بالنظام.
ولكن الدومة ينبه إلى أن الثورة الآن وصلت مراحل متقدمة، ولا خوف عليها، إذا ما تحول العمل النضالي إلى مسلح من أجل استكمال أهداف الثورة وهياكلها.
الفزاعة :
وقال إن البعض يخشى من توجيه النقد للقصور خوفاً المواجهة، وأكد أن قوى الثورة الحية لا تدعو للحرب أو العمل المسلح، ولكن نقول للمرجفين والذين يمارسون التصرفات الخرقاء ويعمدون إلى تعطيل دولاب العمل بتخريب الاقتصاد وتعطيل إكمال هياكل السلطة الانتقالية خاصة المجلس التشريعي فإن الشعب سيمضي لتحقيق ما تبقى حتى وإن أدى ذلك للصدام المسلح، فلا خوف على الثورة لأنها ستنتصر والفزاعة التي يستخدمها البعض بنشوب حرب أكذوبة، وقال إن القوات المسلحة 90% منها عسكريون مهنيون سيقلبون الطاولة لو حاولت أي فئة الانقلاب على المدنية.