د. أنس العاقب يكتب..تداعي!!
تجاذبتنى مشاعر شتى وأنا أتأهب لكتابة هذه الدراسة التحليلية المتواضعة حول عمل غنائى عظيم أنجبته الأمة السودانية منذ أن تهدج صوت الخليل بحب (عازة) قبل أربعة عقود من بث الملحمة عام 1968 وهو يرسل آهة حرى في حب الوطن… يلقي عليه نظرة الوداع الأخيرمن على سريره في مستشفى النهر…. ثم يغادره لدار البقاء عام 1932.. رحمه الله
مشاعري أرجعتني إلى زمان قديم… زمانٍ ما يزال صداه يتردد فى دواخلنا نحن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939/1945).. لكم شهد أحداثاً كثيرة في أقل من عقدين.. شهدنا عالماً ما أن سكنت فيه أصداء تلك الحرب العالمية، انفجرت فيه صيحات الحرية في كل مكان… كان عالماً يضج بثورات وحركات تحرر ونضال ضد الأستعمار في ثلاث قارات… فى آسيا وأمريكا اللاتينية.. وإفريقيا السمراء نهضت من سباتها الطويل.
شهدنا عالمًا يصخب بالمعرفة والأدب والعلوم.. يتغذى بالغناء والسلام.. يتنفس شعراً وإبداعاً وطموحاً… وعشقاً.. وتمرداً… كان عالماً يتأرجح بين اليمين واليسار.. عالماً عفياً…. قوياً، منتمياً ومتناقضاً.. كنا نحن ذلك الجيل الأكثر انفعالاً بعالمنا الخارجي وعوالمنا الداخلية وأحلامنا التي لا تنتهي…
شهدنا في أيام الصبا مهرجانات الفرح العارمة باستقلال وطن اسمه السودان المولود بعد دقيقة واحدة من بعد منتصف ليلة ودعت عام 1955وآخر ثانية من عمر حكم أجنبي جثم ستة عقود إلا قليلاً متحكماً منفرداً بأهله وترابه وثرواته..
(وأصبح الصبح) من أول يوم في يناير 1956 ونحن دولة مستقلة ذات سيادة.. تشامخ راياتها عالياً بين العالمين.. ميلاد أمة ووطن مستقل اسمه جمهورية السودان.. وطن بحجم قارة تمتد من حلفا إلى نيمولي جنوباً، ومن كسلا إلى الجنينة غرباً… يعلن ميلاد دولة هي إفريقيا الصغرى، وفيها نحن أبناؤها سودانيوها ولا فخر.. شهد جيلنا الميلاد الحقيقى لمعنى السيادة الوطنية في ظل الحرية والديمقراطبة والتعددية والسلام… وشهدنا كيف كانت تجربة الديمقراطية الأولى قصيرة النفس والعمر معاً… وكيف للمرة الأولى هزمت الديمقراطية نفسها بدكتاتورية عسكرية في نوفمبر 1958 لنكتشف لأول مرة أن الحرية يمكن أن ينتزعها الشعب من بين براثن الأستعمار عبر نضال طويل مرير.. ثم وللأسف كيف أمكن أن تذبح تلك الحرية فى ساعات قلائل ببضع دبابات وبنادق ومارشات عسكرية.. والبيان الأول… وكان الله يحب المحسنين.
كبير الجنرالات (عبود) يتوسط ثلة من جنرالاته في لقطة تذكارية ــ رحمهم الله ــ وقد قرروا أن يقدموا أنفسهم حكاماً لنا… حكاماً لم نختارهم نحن… ولم نكن لنختارهم أبداً.. لأن الشعوب لا تختار جلاديها.. وها قد وئدت تجربة الديمقراطية الأولى وسقطت في مهد تجربتها الوليدة بين براثن حكم عسكري غاشم على مدى ست سنوات حسوماً…
كان العالم من حولنا منقسماً إلى معسكرين.. المعسكر الغربي الرأسمالي (الإمبريالي) تقوده أمريكا ودول الغرب والمعسكر الشرقي الاشتراكي (الشيوعي) بزعامة الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا.. لم يكن هناك من مفر لبقية دول العالم إلا بالانتماء لأحد المعسكرين أو الاكتفاء بالفرجة من منصة منظمة دول عدم الانحياز التى لم يقو عودها وقتذاك..
هكذا إذن كان مشهد عالمنا الذي يموج بالمتناقصات التي أذكت فينا كثير أشواق نحو المعرفة والتصميم على مبادئ الحرية برغم رومانسيتنا اللذيذة المرهقة..
رجال عظام كانوا يحكمون العالم.. عبد الناصر.. نكروما… سوكارنو… تيتو… نهرو… ماو.. هيلاسلاسي… بن بيلا.. موديبو كيتا.. وأحمد سيكوتوري (شيخ الطريقه)… جومو كينياتا.. وجوليوس نايريري… وباتريس لوممبا شهيد إفريقيا
وآخرون كانوا يتحكمون فيه…
نواصل في المرة القادمة إن كان في العمر بقية!!